منشورات المدونة

الخميس، 22 نوفمبر 2012

هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِّنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزا




كان لا بد لشعب أعتاد على التهجيص ، وأعتاد على أن يُحكم من مبنى التلفزيون ، أن يذوق الأمرين !

منذ إنشاء المبنى القابع على كورنيش نيل القاهرة في الستينات على يد ناصر ، وتحديدا صيف 1960م والأمور تدار من هناك.
فقد هُدي الزعيم "الحنجوري" إلى أن المنسم لن يستقيم له إلا من خلال إذاعة قوية (الحنجرة) عالية (التردد) طويلة (الموجة) لينال بها من أعدائه ! وقد كان لهُ ما أراد ، فجيش ناصر المكون من عدة مذيعين ومذيعات ، وعدة مغنيين ومغنيات ، وطابور الملحنين والمؤلفين ، من شعراء التوجه الأحادي ، استطاع أن يقهر كل الإذاعات الموجهة ، بدايةً من إذاعة اليمن من (عدن) العاصمة الجنوبية ، إلى إذاعة العراق من بغداد ، إلى مهاتراته مع إذاعة سوريا بعد انشقاق الإقليم الشمالي عن الجمهورية العربية المتحدة ، ثم مهاتراته أيضا مع صوت أمريكا ، إلى أخيرا خزعبلاته مع هيئة الإذاعة البريطانية ، هذا بالتأكيد قبل حربه الطاحنة التي أنهى بها حياته الزاخرة مع إذاعة الأردن من عمّان.
فلم يعرف الزعيم الإذاعي جمال عبد الناصر إلا الأستوديو ميدانا للحرب ، حتى لما أدار عملية (إيلات ويافا) كان من داخل أستوديو إذاعي !

أما في مجال الحرب الحقيقية على الأرض ، فلم يكن للرجل العاطفي الانفعالي أي رصيد يُذكر ، فمن نكسة إلى وكسة إلى خيبة أمل مضت حياته وانحنى خط بيانه. وذهب ناصر إلى ربه بعد مخازي عدة على أرض الواقع ، وبانتصارات عارمة في المجال الخيالي وعبر الأثير.

وجاء السادات ، وأذكر هنا ما قاله عنه محمد حسنين هيكل في كتابه (خريف الغضب) حيث قال: إن أنور السادات هو الفرعون الوحيد الذي جاء إلى الحكم مسلحا بكاميرا.
أي أنّ الرجل أيضا من الفصيلة الأثيرية ! تلك الفصيلة التي اعتادت على الحرب من داخل الأستوديو ، وإن كان السادات قد غسل عار سلفه العشنَّق بدماء عزيزة جرت فمحت دماءً غليلة لجَّت بها صحراء سيناء ، ألا أنه لمَّا أنفضَّ العرس عنه وأطفئت السرج بعد وقف إطلاق النار ، وبعد تجميد العمليات وفك الارتباط الأول والثاني ، لم يستطع الرجل الأثيري أن ينحسر عنه الضوء سنة واحدة ! خاصةً بعدما عرفت صوره طريقها إلى أغلفة المجلات العالمية ، وحجز مقعده أمام كبار المحاورين الأفذاذ ، وأطلت سحنته على العالمين من خلال كبريات الشاشات العريقة.
أقول: لم يستطع الرجل الصبر على هجر الأثير له ، فسارع إلى هدم ما بنا ، وإفشال ما سعى ، فنكص على عقبيه إلى الزيارة التاريخية التي علمت العالم العربي الطريقة المثلى في الانبطاح ! وبذات الوقت جذبت كل الكاميرات إلى حيث يكون.

سارع الرجل المنتصر (جيشه) على أرض الواقع ، إلى الهزيمة الواقعية مقابل النصر الخيالي ، فمقابل أن يقف وقفة دراماتيكية ، ويجلس جلسة "هليودية" ويضحك ضحكة (جيمس بوندية) باع النصر ، واشترى الهزيمة واقترض الأمان وسأل السلام فلم يعطه ! وإن كانت الكلمة ملئت حينئذ الأفاق ، لكنها لم تُتَرجم على أرض سيناء حتى يومنا هذا ، على الأقل من جانبنا ، أما من جانبهم فهم في أمان السادات وكارتر وبيجين.

وعلى الدرب هم سائرون ، فإن كان ناصر مؤسس الفكر الناصري القائم على الشيوعية المحضة ، الفكر المسمى إفكا (اشتراكية) وليس هو من الاشتراكية في شيء وليس له من تفسير سوى الشيوعية البلشُفية الحمراء ، أو السادات الليبرالي الرأس مالي الغربي ، الذي استطاع (تهجين) مسار الفكر العربي المصري إلى (شيوعمالي). فالناس أمام الحاكم شيوعيون ، بمعنى هم وما يملكون ملكا له ، يسرق منهم كيفما يشاء ، فإن أفلسوا فهم رأس ماليون ، حتى إذا عادوا إلى أوطانهم كانوا شيوعيين ! شيء أشبه بالسمك لبن تمر هندي ، فالحياة في شارع (الشواربي) – العاصمة التهليبية التهريبية لعصر الانشكاح المسمى انفتاحا - كانت قمة الرأس مالية ، أما في بيوت الموظفين وأكواخ الفلاحين فكانت أشد شيوعية من (بادالينج) أيام (ماو تسي تنج) الزعيم الشيوعي الصيني.
أقول: إن كان ذاك أو ذلك أو من خلفهم ، ويا بئس الخلف فالكل كانوا من مدرسة واحدة ، المدرسة التي حدودها مبنى الإذاعة والتلفزيون أو ما طرأ عليه من مدن واستوديوهات ، الكل أعتاد على أن يسوس شعب من وراء ميكرفون ثم كاميرا وحديثا برنامجا جماهيريا واسع المدى ، كان كذلك حسني ! الذي خلف السادات – الرجل الأثيري الثاني – فكان الرجل الأثيري الثالث أشد تقنيةً من سالفيه ، فكانت في عصره أن زادت القوات المسلحة التلفزيونية والإذاعية وادخل عليها فيلق الأفلام وفيلق المسرحيات وفيلق الأغاني وقوات (كوماندوز) خاصة جدا من رجال أعمال فنيين وفنيات ، وجرَّ أولئك قوات (مارينز) من فصيلة إعلامية فقست حديثا من حاضنة الصحافة الصفراء ، والتي تولى رجال الأعمال رعايتها بالتدفئة والتهوية ، فكان الهم كبير جدا ، أما في عصر الثالث فكان النصر أكبر ، وكانت الزعامة أشمل ، فرأينا وسمعنا وخبرنا زعيما ظل ثلاثين عاما يحكم بحب شعبه له – من خلال الأغاني والأفلام طبعا - ، وطالب شعبه به أكثر من مرة – تمثيليا – ثم بكى الشعب بكاءً حارًا راجيا إياه أن يترك لهم ابنه من بعده – دراميا بالتأكيد – وشهدنا على زوجته وهي تترجى خادمتها أن تقول لها (يا أم علاء) بدلا من يا هانم – في مسلسل إذاعي شهير – ولمسنا بآذاننا صوت الطلعة الجوية التي فتحت باب الحرية ، وأمسكنا بأعيننا صورةً كانت لفريق مهندس حرب رمضان (أكتوبر) حذفت بضغطة زر وجاءت بدلا منها أخرى أكثر نضرة وأشد بهاءً ، وقرعة عيوننا صورة أخرى بمؤسسة صحفية كبرى تحركت بقدرة قادر من خلف (أوباما) إلى أمام أمامه ، وسبحان مسير الأكوان ومصور الصور وخزيان لمن يغيب العقول ويُعاند القدر.

ولو تُرك لي الحبل على الغارب لاسترسلت في الحديث حتى أحوي بمكتوبي هذا كل الرجال والنساء الوهميين والأثيريين الذي درجوا على حرب الكواكب وأفلام الخيال العلمي ، بداية من زعيم هبط علينا من تويتر وفيس بوك إلى آخر لا يستطيع البعد عن الكاميرا طرفة عين ، ولم يبق إلا أن يصور لنا جثته وهو نائم في غرفة نومه ، فكل شيء يهون عند أولئك إلا أن تسرق منهم الكاميرا ، وقد فهم خبثاء المجال الإعلامي هذا الشجن ، فعزفوا ولا يزالوا على وتره الحساس ، فتراهم مضيَّفين لذانكم النفر كل يوم ، ومن برنامج لبرنامج ، ومن قناة لأخرى ، ولا تحتاج تلكم الحرب إلا عدة رابطات عنق أنيقة وما أكثرها ، وطاقم من الأقلام الماسية أو الذهبية ليشير بها من آن لآخر أما الكاميرا ، فتلمع لتخطف بصر المشاهد وبصيرته ، وتتركه مغيبا ، عجلا جسدا له خوار.
والكارثة الكبرى أنهم يرون أنفسهم مقاتلين ، وأن هذا هو مجال حربهم ، لذلك تراهم دوما يطلبون المدد من الحضَّانات والمفارخ ، فتارة يطلبون من الشرق ، وتارة من الغرب ، والحرب دائرة على أشدها.
من هنا جاءت الفجوة العميقة التي نراها الآن ، وعدم الفهم ورداءة الترجمة بين جماعة الإخوان والسفليين من جهة ، وبين أبناء حنجور وطرطور والعم ماسبيرو ، الجماعتان المذكورتان صاحبتا التوجه الديني الإسلامي ، لا تعرفان الحرب الالكترونية الوهمية ، ولا تجيدان الجلوس خلف الشاشات ولا أمام الكاميرات ، ويهيئ لهم إن كانوا إخوانا أو سلفيين ، أن العمل على الأرض أسمى أمانيهم ، وأنَّ المنابر التي دأبوا على ارتيادها بين المصلين وبحضرة السامعين وفي متناول المختلفين أصدقُ أنباءً من الصُحفِ ومن أصحابها ، وأن الناعقين داخل الاستوديوهات ما هم إلا قردة يقفزون من شجرة إلى أخرى لا قيمة لهم ، وعلى الجانب الأخر أصحاب دكاكين الإعلام ومن على شاكلتهم من حناجر وحُلل ورابطات عنق وأحذية لامعة ، لا يقدرون العمل الأرضي ، ويرون أن الأثير هو الحل ، وأن الطيران في الجو والهبوط على أسطح المنازل وقصد الطبق القابع فوق السطح والولوج عبر الأسلاك إلى المصب داخل مستطيل ذي شاشة فضية ، عمل انتحاري ناجح وناجع وعظيم ، وأن تحريك الجيوش ومن خلفها ومن أمامها ومن فوقها ومن تحتها الشعوب الثائرة لا يحتاج منه إلا فقط (تويتة) صغيرة ذات مائة وأربعين حرفا ، أو تدوينة على فيس بوك لا تتكلف سوى كوبَ شاي وسيجارة أو إن شئت قل (سيجار) كوبي فاخر ! ولا بأس من عدة ألفاظ ومصطلحات لزوم (السبوبة) لا يعرفون لها معنى ، على قليل من تجارة الظروف والمواقف والرقص على الأشلاء وبيع المبادئ في مزاد الذمم ، واستغلال الأحداث مهما كانت دامية.

إنَّهم حصادٌ يا سادة وليسوا زراعًا يغتاظ بهم الكفار فلا تلوموهم ، فهم جُبلوا على أن رحى الحرب تدار من داخل الأستوديو ، إن كان صوتيا أو مرئيا ، تعلموا أن بناء التلفزيون يأتي قبل بناء الجيش ، وأن دعم الأجهزة الالكترونية أهم من دعم الرغيف ، وأن الراقصة أكثر شهرة من الشيخ ، وأن المغني صاحب رسالة ، وأن الملحن صاحب مدرسة ، وأن الشاعر الماجن رائد جيل ، وأن الكاتب الملحد صاحب (نوبل) وأن النخبة محلها المختار القنوات الفضائية ، هذا ما تعلموه ، أما نحن فلنتعلم أن الذي نجده بجوارنا هو أقرب الناس إلينا ، وأن الذي لا يأكل أكلي لن يجد مرارتي ، وأن لا أمل لنا إلا بهذا الدين ، وإلا – فأمامك الحناجر تنبح ليل نهار فـ (هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِّنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزاً( وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
_________

بقلم / مصطفى كامل زلوم              
             
   
     

0 التعليقات:

إضغط هنا لإضافة تعليق

إرسال تعليق

Blogger Widgets

الجزيرة بث مباشر

Twitter Delicious Facebook Digg Stumbleupon Favorites More