منشورات المدونة

الجمعة، 23 مارس 2012

الأســــــــــتـاذ !!


حَاولتُ كثيرًا أنْ أقتربَ منهُ ،، فكانَ لمثلي حُلمًا كبيرًا أنْ يُحدثهُ ،، ولكنْ حالتْ الكثيرُ منَ الأمورِ أن نلتقي ،، حتى كان اللقاء وليته ما كان ...!

الأستاذ (عمر كامل) أستاذنا وأستاذُ الجيل ،، والمتحدثُ الرسمي باسم بلدة كبيرة مترامية الأطراف !!
تكلمَ في زمنٍ لم يكنْ الكثيرُ يُحسنُ الكلامَ ،، وكانتْ لهُ نظريةٌ في وقتٍ كانتْ أغلبُ النَّاس لا تكادُ تفرِّقُ فيهِ بين النظريةِ والملوخية ،، وواكبَ العصرَ في زمنٍ لم يكنْ الكثيرون يعرفُون العصرَ إلا الذي يأتي بعدَ الظهرِ ،، والذكي فيهم هو الذي كانَ يراهنُ على أنهُ يأتي قبل المغرب ،، لبس على "الموضة" في زمنٍ لم تكنْ تصِلنا الموضةُ إلا بعدما تُمْسي تراثًا غَابرًا ،، وسمعَ الموسيقى في قرية كانت تسمعُ بالكَادِ "نشجَ المآتم" وشجَّعَ الرياضةَ ولعبها بينَ أناسٍ كانتْ رياضتهم الكبرى هي التَسابقُ بالحميرِ وهم عائدونُ من المقابرِ ،، فكان بحقٍ ومضةً منْ نورٍ في وسطِ ظلامٍ دامسٍ ،، وخيطًا أبيضَ في ليلٍ بهيمٍ يُمَثِلُ ظهورهُ الحدَّ والميثاق

كنَّا صغارًا وكان هُوَ أستاذنا ،، وإنْ لم أتلقَّ يومًا درسًا على يديهِ ،، ولكنْ لا أعلمُ لماذا كنتُ اعتبرهُ أستاذي ،، ولمَّا كانَ هناكَ شبهٌ ثلاثي بين اسمهِ واسمي ،، كم كُنت أفخرُ حينَ يسألني مدرسٌ ،، هل أنتَ أخو الأستاذ عمر ؟! وبرغْمِ نفيي لهذا الأمرِ ،، لكنِّي كمْ كُنتُ أسعَدُ لهذا التشابهِ ،، حتى ساقني خيالي الطفوليِّ لأن أتمنَّى أنْ لو كنتُ أخاهُ ،، فكان بينه وبيني وبحسبِ تقديري الآن ألف سنةٍ ضوئية ،، أما لو سُئلتُ في حينها فلرُبما كنتُ لا أعرفُ الإجابةَ على وجهِ التحديدِ ،، لكنْ ما رسخَ بوجداني أنهُ كان رجُلٌ عظيم.
وظللت على هذه الحالة أعوامًا ،، اقتربُ وأبتعدُ ،، أظهر وأختفي ،، ألقي السلامَ وأنتظرُ أنْ يردَّ ،، وربما أراقبهُ عن كثبٍ وهو يتكلمُ معَ أصدقائه ،، وكأنها حالةٌ منَ العشقِ ولكنَّها منْ طرفٍ واحد !!
ثم استبد بي الوجدُ إلى الدرجةِ التي جعلتني في عقدٍ منَ الزمانِ أجمعُ نوادرهُ منْ جلسائهِ ،، و"قفشاته" الفكاهية والتي لم تكن تخلو مجالسهُ منها ،، كلُّ هذا وأنا لازالتُ أحلمُ بلقاءٍ يجمعنا كصديقين ،، وإنْ كنتُ أحيانًا أرى أنني ضئيلٌ على صحبته .

وفي عام 2005 هبطَ الوحي في زمنِ انقطاعِ الوحي على أحدِ الأصدقاءِ آمرًا إياهُ أنْ يُدشِّنَ جمعيةً أهليةً خدميةً ...الخ 
وأختار صديقي لها أسمًا "جمعية شباب ......" المهم دعاني صديقي فلبَّيتُ الدعوة على الفور ،، وأسندَ إليَّ هذا الصديق مُهمة المُنسقِ العامِ لحملةِ الدعايةِ ،، فشكرتُ لهُ حسنَ صنيعِهِ وثقتهِ الغالية في شخصي الضعيف ،، خاصةً وأنَّهُ قدْ اختارني من بين أعضاءَ الجمعيةِ الكُثُرٍ ،، والَّذي كان عددهم وبلا مُبالغة يزيدُ عنْ أربعةِ أعضاء !! لكنْ وبرغم الكثرةِ العدديةِ الهائلةِ ،، وبرغم انشغالِ صديقي الفظيع حيثُ أنَّه كانَ يحملُ كلَّ الأعباءِ على عاتقه ،، ويا لها من أعباءٍ جسامٍ ،، متمثلةً في الجلوسُ على قارعةِ الطريقِ والصياح بأعلى صوته في النَّاسِ أن يأتوا إلى جمعيتنا ،، وكأنه ينادي على "تين شوكي" وبرغمِ أنَّ النَّاسَ لم تكنْ تعبأ بهِ ولا بصياحهِ ولم يكن أحدًا يجيبه وكأنه لا يتحدث ،، إلا أنَّ عزيمته لم تفتر !!
أقول: برغم كل هذهِ الأشياءِ التي ذكرتُ وثقَ فيَّ صديقي الحبيب واصطفاني وأسندَ إليَّ مهمةَ الدعايةِ أو وضعَ منظومةٍ للدعاية ،، فما كان مني إلا أن شمَّرتُ عن ساعدي وكتبت مقالا قصيرًا أجتذبُ بهِ المثقفين من أهل بلدتي ،، وجعلتُ من المقال "شصًّا" ليقع فيهِ القارئ ،، رُبما يظنُ من يقرأ أني أختلفُ معه فيأتي ليناقشني أو يَظنُ أني اتفق معه فيأتي ليؤازرني ،، المهم أن يأتي والسَلام ،، وقد كان ما خمَّنته ،، فقد جاءني الكثيرون ممن قرؤوا ،، وخلع عليَّ المُتعصبون منهم صفاتًا رائعةً ليس هذا مجالها الآن ،، لكن في خضمِّ هذه الأمور حدثَ ما حلمتُ بهِ طوال حياتي ،، فقد أرسل إلينا الأستاذ القيِّم عمر كامل مع أحدِ أقاربه لنلقاه بعد المغرب ،، بسبب أنَّ الأيام كانت رمضان ولن نستطيع الذهاب إلى بيتهِ نهارًا لأسباب معروفه !!
وذهبنا وكان اللقاء الذي راودني طيلة أعوام ،، جلسنا معه فوجدته يشير لي بالجلوس إلى جواره ،، ثم نظر إليَّ بعينيه العميقتين وقال "أنتَ الذي كتب هذا الكلام ... صح ؟" فقلت على الفور نعم !
فقال: أحسست أنهُ كلامك ،، خاصةً لمَّا أعلموني أنكَ معَ الشبابِ ،، فتعجبتُ كثيرًا ،، أإلى هذا الحدِّ أمسيتُ مشهورًا وصاحبَ قلمٍ يُشار إليه بالبَنَان ولا تغفله عينُ القارئ ؟؟! لكن على ما يبدو أنَّ الرجلَ كانت له حسابات أخرى !!
جلسنا عندهُ قرابةَ السَّاعةَ ،، كان يبدو عليه الإجهادُ بشكلٍ ملحوظٍ جدًا ،، وبعدَ الجلسةِ التي أعلنَ فيها أنهُ يؤيدنا ويشدُّ على أيدينا المرتعشة ،، ودَّعناهُ وانصرفنا على أملِ اللقاءِ لنطلعهُ على آخرِ المستجداتِ ،، ولكنْ لم يكنْ هناك لقاءٌ آخر ،، فقد توفاه الله في الشهرِ ذاته وبعدما كنَّا عندهُ بأسبوعٍ على الأكثر .
إنَّا للهِ وإنَّا إليهِ راجعون ،، هكذا قلتها حينَ سمعتُ الخبرَ ،، وها أنا أقولها الآن وبعد مرور أكثرَ من سبعةِ أعوامٍ على وفاتهِ أظنها سبعُ ساعاتٍ ،، وكأني بهِ الآن وهوَ يهشُ في وجوهنا ويدفعنا بعزيمةٍ كالحديدِ وبجسدٍ مُتهالك لم يبقَ منه شيء سوى أطلال رجل.
وغابت شمسُ بلدتي وإلى الأبدِ ،، وانطفئ نجمُها البازغ ،، تاركًا الساحةَ خواءًا يَعبَثُ فيها أنصافَ المُثَقَفين وأشباههم ،، ومن ليس لهم أدنى صلة بالكتابِ ،، ومن لم يحسبوا للقلمِ حساب ،، ومن لم يدخلوا للنخوة باب !! 
رحمَ الله أستاذنا وأستاذَ الجيل بل وأستاذ بلدتي على الإطلاقِ وغفر لهُ وجعلَ ما تعلمناهُ منهُ في ميزانِ حسناته
_____________________



0 التعليقات:

إضغط هنا لإضافة تعليق

إرسال تعليق

Blogger Widgets

الجزيرة بث مباشر

Twitter Delicious Facebook Digg Stumbleupon Favorites More