منشورات المدونة

الجمعة، 13 يناير 2012

القاهرة - 2012

محجوب عبد الدَّايم - القاهرة 30


لمْ يكدْ يفارق مُخيلتي "محجوب عبد الدَّايم" إلاَّ و جَرفتهُ الأحداثُ أمامَ عيني مُجددًا، محجوب عبد الدايم، ذاكَ الشَّابُ الفلاح النازح من أحدى قرى وجه بحري، والذي بلغ بهِ الخوف أو الذل القاسي مبلغًا جعلهُ يكفُر بكل شيء، بدايةً بالرموز، مرورًا بالدين، ووصولًا للعادات والتقاليد، حتى النخوة والرجولة لم تسلما من كفرهِ ومن "طظ" تلك الكلمة الشعبية التحقيرية التي لم يكن يستطيعُ الجهر بها أو ترديدها إلاَّ فيما بينهُ و بينَ نفسهِ الذليلة.
محجوب عبد الدايم، تلك الشخصية المِحورية التي وردتْ في رائعة الأديبِ الكبير "نجيب محفوظ" – القاهرة30 والتي تحولتْ إلى فِيلم مِصري فيما بعد في عام 1966م والذي أخرجهُ الرائع الراحل "صلاح أبو سيف"، ولعبَ دور محجوب عبد الدايم الفنان الكبير "حمدي أحمد" والذي أقتسمَ البطولةَ مع الرَّاحلة سُعاد حسني وأشرف عبد الغفور وأحمد مظهر وآخرين، ولستُ هنا بصددِ النقد الفني أو التقييم الأدبي، ولا يعنيني باقي الأدوار، بقدر ما يعنيني محجوب عبد الدايم، الشاب النازح من أحدى القرى المصرية، والذي يحمل على كتفيه كل هموم الأسرة الفقيرة، ويحمل بين يديهِ كل أخْلاقِيَّاتهِ، يعرضها لمن يدفعُ الثمنَ، ومهما كان الثمنُ بخسًا، ومهما كان العائدُ حقيرًا، لكنَّ محجوبًا كان على أتمِّ إستعدادٍ لتسليمِ ذاتهِ و إهْدارِ ماء وجهه، و إلقاء كرامتهِ على الأرضِ، بل و سَحقِها بحذائهِ المهترئ، إنْ لزمَ الأمرُ، وكان ذلك سوفَ يعود عليه بعائدٍ ولو ضحل.
جاءَ محجوب عبد الدايم إلى القاهرة طالب علمٍ كما الكثيرين، جاء محجوب مثقلا بهمومٍ كثيرةٍ، همُّ أخوتهِ وهمُّ أمهِ وهمُّ قريتهِ، و همُّ وطنهِ المُحتل والمملوكِ لغيرهِ من الأجانب عُنوةً، ظلَّ الطالبُ حافِي القَدمين و جُلودِ أبقارهِ يتزيَّنُ بها الغاصبُون، ظلَّ مُتسِخَ الجَسدِ و الثَّوبِ، و مياهُ النيل تجري منْ تحتهِ، جائعَ البطنِ والجيبِ، و بلدهِ بها من الخيراتِ ما يكفي العالم، ظلَّ تافهَ القَدرِ و المقامِ وهو "مصري".
ولما أثقلتهُ الهموم، وداهمتهُ المنايا، بدأ في التخففِ ممَّا أثقلَ كاهِلهُ، فألقى همَّ الوطنِ أرضًا، ثم همَّ القريةِ التي أخرجتهُ، ثم أمهِ التي حَملتهُ، وكان من السهل أن يُلقي همَّ الأخوةِ أسفلَ سافلين، ودارَ حيثُ تدور الرياح، بحثَ عنْ أخسِّ الناسِ وصاحبهُ، و عنْ أسفلِ مهنةٍ في التَّاريخ، و جعلها نِبراسًا فوق رأسهِ، تبعَ الشيطانَ وحالفهُ، وأيَّد الخَنا وداهنهُ، ثم انتهى بهِ المُقامُ أن أصبح "ديوثًا" أعزكم الله.
لا ولن أنسى المَشهدَ الذي جَمعهُ مع زوجتهِ "سعاد حسني" في مَشهدٍ غايةٍ في السَفالةِ والإنْحِطاطِ، وبعدما أصبح "زوج الست" التي يصاحبها "الباشا" أحمد مظهر، والذي لا يستطيع فراقها ولا الزواجَ منها، فأقترحَ عليه خادمهُ الدنيء، والذي هو "بلديات" محجوب عبد الدايم، أن يزوجَها محجوبًا، وليكن ذلك الزواج أمام الناس، على أن يترك محجوبٌ البيتَ لشريكهِ في زوجتهِ كل ليلةِ خميس، وكان ذلك المشهد الذي ذكرت، وهو يقول لزوجتهِ، لابد أن أترك البيت فورًا "الباشا على وصول" !! ومشهد أخر، حين تمنى على زوجتهِ أن تكلمَ الباشا في مسألة ترقيتهِ، فتقول الزوجة "بس كده – الليلة يكون جواب ترقيتك تحت المخدة" يا للمصيبة حين يُصبحُ العِرضُ عملةً رديئةً، وثمنًا بخسًا، يا للمصيبة حين نصبحُ بلا نخوةٍ ولا أخلاقٍ، يا للمصيبة حين نتحولُ إلى خنازير، ونحن أناسي !!
وكم من محجوب أشاهدُ، وكم من محجوبٍ يُقْسِم لنا أنهُ ليس بمحجوبٍ، لكنهُ وإن اختلفت الأدوار، وتباينت الظروف، هو بذاتهِ وصفاتهِ، هو ذاك الشاب التسلقيّ الحقير، والذي أنتقمَ ممن ظلموهُ في نفسهِ، و حاسبَ من سحلوهُ في عرضهِ، وضرب بيدٍ مبتورةٍ كلَّ من لاكَ شرفهُ، ودنَّسَ فِراشَهُ.
أيُّ منفعةٍ تلك التي تجعلنا خنازير، نبيع العرض والأرض، وإن كان الخنزيرُ مضربَ الأمثال في عدم النخوة، لأنه الحيوانُ الوحيدُ الذي لا يغارُ على أنثاه، فإني أعتذر منه، فلم نسمع عن خنزير باع حظيرتهُ لخنزير آخر مقابل حِفنةٍ من مال، أو داهن أعدائهُ ورضي لبني جنسهِ الخَبال، أو أراد التلميع ولبس أنيقِ الثيابِ ولعِبَ بالألفاظ وتراقص بلسانهِ فضلا عن جسدهِ مقابل أن يُقالُ عليهِ زعيم، وهو زنيم !! كم من محجوبٍ ستلقى في حياتكَ، من جعل من قلمهِ "جلادًا" لأصحاب الدين، ومن أدَّعى كذبًا بأنه "عمَّار" وهو هدَّام ومُخرب، ومن لبس ثوبًا غير ثوبهِ، ثقلتْ عليهمُ الهموم فتحلَّلوا ممَّا أثقل كواهلَهم، فكان الدينَ والأخلاقَ والعرضَ.
تداخلتِ الصور، وساحتِ الألوان، وانطمسَ البيانُ وبُتر البنانُ، وأختلطَ الحابل بالنابل، فهذا زعيم من الأستوديو، وهذا مُناضلٌ من مكتبهِ الفاخر، وهذا بطل من تحت التكيف ورُبما من تحت اللحاف، أما ميدان الخطابة والزعامة والنضال، فهو برامج "التوك شو" يجلس البطل منهم، ضابطَ الجلسةِ على الكاميرا، أمامه "مج" الشاي أو القهوة أو "الكافاتشينو"، وعلى المنضدة الفارهةِ أوراقٌ بيضاءَ وقلمٌ أنيق غالي الثمن، يعبثُ بالقلم أمام الكاميرا، يقربه من فمهِ تارةً، ويلفهُ في دوائر مستديرة إذا احتدم النقاش، يحلفُ بالشرف، وبالوطن، بالعرض، وبالأرض، وبالسماء، وهو كافرٌ بكل هؤلاء، يتشدَّق بالإنتماء وبين طيات ملابسهِ بطاقة جنسية غربية، يقسم بشرف زوجتهِ، وهو يتركها كل الليالي "لشريكه فيها" وليس ليلة الخميس كمحجوب عبد الدايم، ثم بعد كل هذا، يهتف "طظ" في نفسهِ، أو أمام المرآة وهو يحلق لحيتهِ، ويحلق معها كل غالي على الشرفاء، ولا عجب إن وجدت هؤلاء يتاجرون بأي شيء، بدايةً بالعرض وإنتهاءًا بالشهداء، مرورًا بكل مُسَلَّمٍ بهِ ومُتفقٍ عليهِ، فقد استباحوا كل شيء، وأغلى شيء، فباتت الأمور الهائلة سهلةً ميسورةً عليهم.
لكن ولماذا العجب !! وورائهم أجهزةً تنبح لهم تهليلا وتحميدًا وتمجيدًا، فإن وجدت فتاة مغمورة تدَّعي الشرف والبطولة وهي تافهة، ألف ميكروفون وألف كاميرا تحتاط بها كلما خرجت للتسوق، أو لقضاء حاجة، ووجدت وسائل الإعلام تذيع خبر خروجها من الحمام وخبر دخولها "الساونا" فلماذا لا تتيه فخرًا وخُيلاء ؟! وتتساءل: أين كُنت وأين أصبحت، ثم تهتف في طيات ثيابها "طظ" – طظ في بلدي وفي قيمي وأخلاقي، طظ في أبي وفي أمي وأرزاقي، طظ حتى في ديني وليحيا خدَّامي وعُشاقي، إنها الطامة إذن.
وآخر يدَّعي الأدب، وهو قليلُ الأدب، شاذ الفكر والقلم والأخلاق، مهنتهِ أن يركب الأعناق ليس للهتاف، بل ليصل إلى ما يريد بدون سيارة، يبيع الذمم مقابل الدولار، ويشتري الذل والعار بأغلى الأثمان، يشتريهما بتبر بلادهِ !! ولا عجب، وفي هذه الأثناء يبحثُ الناس عن العلم، عن شريف القلم، عن أصحاب الذمم، ولما تداخلت الألوان كما ذكرت، عزَّ الشريف الأبي، فلم يجد الناس إلا الصور الباهتة، فالتفوا حولها ظانين أنها حقيقية، وهي خذلان وعار على أصحابها، هي تمثلية بطلها "محجوب عبد الدَّايم" ومحجوبة أيضًا، فإن كان "نجيب محفوظ" قد أصطنع لنا محجوب واحد، فإننا قد استنسخنا منه آلاف الشخصيات، بين ذكر وأنثى و"خنثا" ثالثة.
ويعود محجوب عبد الدايم من حيث أتى، حين يخرج الباشا من الوزارة بعد أول تعديل وزاري، فتتركه زوجتهُ، لأنها لم تكن زوجته في الحقيقة، بل هي "محظية" الباشا السكير، يعود محجوب مثقلا بهمٍ جديد يُضاف إلى كم الهموم التي أراد أن ينسلخ منها، فإذا بها تداهمه ومعها هم آخر، هو همه هو نفسه، فقد ضاعت منه ذاته، حين ترك الأصل النظيف وتعلق بشجر الغرقد، لكن بلاده لم يكن لها حاجة فيهِ، فبلاده تحتاج للشرفاء لا للخبثاء، تحتاج الأبطال لا الأنطاع، تحتاج السيوف لا الأنصال، أما قريته فقد لفظته، وأمه دفنته حيًا، بعدما شاهد أبوه الرجلُ "الفلاح" فضيحة الباشا وهو خارج من غرفة نومهِ تحت تهديد زوجته الأولى "الهانم" فكانت طامةً كبرى سَحقت أباهُ وجعلته يتفلُ على محياه، ويفر هاربًا من البيت قبل أن يهوي السقف عليهِ، أو هكذا تخيل من شدةٍ الخوف من الله، ولم يعدْ للأخوة كبيرٌ يفتخرون بهِ، فكبيرهم أمسى "ديوث" يبيع عرضهِ مقابل وظيفةً وراتبٍ شهري، وهكذا تكون نهاية الأذناب، وهكذا تنتهي الحياة بالكلاب، أو أشباه الكلاب مع الإعتذار للكلاب، كما اعتذرت للخنزير من قبل، فليست في أفعال الكلاب ما يوافق أخلاق الأذناب، والله أسأل أن يرينا في كل محجوب في الحياة ما رأيناه في محجوب على الشاشة، فإن كان محجوب من وحي خيال المؤلف، فإن محجوباتنا حقيقة ملعونة تمشي على قدمين، أو رُبما على أربع.
 ألفُ تحية إلى روح الأديب والفيلسوف الذي أثخن ذهني، وحرك زندي، وأشعل فكري الأستاذ خالد الذكر / نجيب محفوظ، وإلى كل فنان رفع مُعدل الضغط عندي من فرط ما أتقن الدور، وعلى رأسهم الفنان / حمدي أحمد، ولعنة الله الماضية على كل محجوب باع كرامته أو لا يزال يبحث عن مشتري، ولا عزاء لأي محجوب يرى نفسه من خلال السطور، فلم أعنِ أحد بعينه، لكنها مجرد أفكارٍ داهمتني حين رأيت محجوبات العصر الحديث تتراقص أمام عيني، وفي النهاية رددوا معي مقولة سيف الله المسلول، خالد بن الوليد "فلا نامت أعين الجبناء".
___________________

مصطفى كامل زلوم

الأديب العالمي - نجيب محفوظ
 

0 التعليقات:

إضغط هنا لإضافة تعليق

إرسال تعليق

Blogger Widgets

الجزيرة بث مباشر

Twitter Delicious Facebook Digg Stumbleupon Favorites More