منشورات المدونة

الأحد، 1 أبريل 2012

تجري الرياح بما لا تشتهي السفن

 وتَجري الرياحُ بما لا تشتهي السُفنُ ،، مثلٌ عربي قديمٌ لطالما سمعتهُ وشاركتُ في نشرهِ بينَ النَّاسِ بدون إعمالِ النظرِ العميق فيهِ ،، وطالما اصطدمت بقريبٍ لي رحمهُ الله ،، حينما كان يصحِّح لي بكل تؤدةٍ قائلًا "السَفِنُ" بفتح الـ س وليس بضمها ،، لأنَّ السَفِنُ – بحسب قريبي – هو رُبَّانُ السفينة وهو بالتأكيد الَّذي يشتهي وليست السفينة الخشبية التي تشتهي ،، كان وجهي يحمرُ خجلًا لظهوري بمظهر الغبي ،، وأحيانًا يتمعَّرُ غيظًا من قريبي المُثقَف ،، لكن في كل الأحيان لم أكنْ ألقي لهذا الحديثِ بالًا .

* * *
ومنْ يومين أو أكثر ،، أُعلنَ في بلدتنا السعيدةِ أنَّ دكتورًا كبيرًا عظيمًا وشيخًا جليلًا قد أتى منْ غربتهِ ليُشاركَ بلدتهُ وبلدتنا ما تعانيهِ في هذه الآونة ،، وليحملَ عنْ كاهلِ المنكوبينَ وليمسحَ دمعَ الباكينَ وليربتَ على كتفِ المكلومينَ وإلى آخر الخطِّ الطويل في طابورِ التعازي والتكاتفِ والايخاء ،، وانتظرتْ البلدةُ على جمرٍ ملتهبٍ وصولَ المُخلِّصُ ،، وباتت على تراتيل الغناء وأصبحتْ على عزفِ الألحانِ وفن الحداء ،، وفي يومٍ معلومٍ ،، دُعي النَّاسُ إلى يومٍ أقربُ ما يكون شبهًا بيوم "الزينة" وحُشرَ النَّاسُ عِشاءً هذهِ المرة وليسَ ضحى ،، وأكتظَّ المسجدُ بالمُصلينَ ،، وما أنْ فرغَ الأمامُ منَ الصلاةِ إلا وكتمَ النَّاسُ أنفاسهم مشدوهين مشرئبِّينَ متطلعينَ إلى الداعي ،، وتربَّعَ الشيخُ وأعتدلَ في جلستهِ ،، وحمدَ الله وأثنى عليهِ بما هو أهله ،، ثمَّ دخلَ في سياقِ الحديثِ ونهرِ الكلامِ ،، مستحضِرًا قصةً بعينها سيكونُ محورُ الحديثِ عنها ،، وهي ذاتُ القصَّةِ التي توقعها النَّاسُ منهُ ،، ولكنْ كلٌّ منهم نظرَ إليها منْ منظورٍ غيرَ الآخرِ !! أو قلْ عكسَ الآخرِ ،، فالنَّاسُ المكلومون كانوا ينتظرونَ خطبةً عصماءَ في مناقبِ المظلومِ ،، وأيضًا في صفاتِ وخبثِ الظالمِ ،، كانوا ينتظرونَ شرحًا مفصَّلًا لمنزلةِ المظلومِ عندَ اللهِ في الجنةِ ،، وعن منزلةِ الظالمِ في النَّارِ ،، كانوا ينتظرونَ تبيانًا صريحًا لعقوبةِ المُلفِّقِ والمُشهِّرِ والقاذفِ عِرضَ البريء ،، لكنْ "تجري الرياحُ بما لا تشتهي السُفنُ" فما كانَ بعدَ ذلكَ شيء أقربُ ما يكونُ إلى الفنِّ التكعيبي أو الرسمِ السريالي ،، فقدْ أغرقَ الدكتورُ في شيءٍ بعيدٍ كلَّ البعدِ عمَّا نحنُ فيهِ ،، رآهُ النَّاسُ وقدْ استشهدَ بقصةِ فتحِ "بني قريظة" بعدَ غزوةِ الأحزابِ ،، وعندما أعلنَ رسولُ الله صلى اللهُ عليهِ وسلمَ عن نيتهِ في غزو بني قريظة وقال:
 لا يُصلينَّ أحدٌ منكم العصرَ إلا في بني قريظة ، ولما أتى موعدُ العصرِ وهمَّ بالرحيلِ صلَّى البعضُ وأنتظرَ البعضُ الآخرُ ،، وتأوَّلَ كلٌ منَ الفَريقين الأمرَ منْ وجهةِ نظرهِ ،، فمنهم من رأى أنَّ الصلاةَ لابدَّ وأنْ تُصلَّى لوقتها ،، ومنهم منْ أخذَ بظاهرِ الأمرِ وقال: لا نخالفُ أمرَ النبي صلى الله عليه وسلم ،، وهنا نظرَ فضيلةُ الدكتور الأمامُ الشيخُ الحبرُ إلى النَّاسِ في المسجدِ وسألهم ،، ماذا يفعلُ القوم ؟ هل يُصلون ولا يتركوا الوقتَ يذهبُ أمْ أنَّهم ينتظرونَ إتباعًا لظاهرِ أمرِ النبي ؟ فأنقسمَ النَّاسُ في المسجدِ إلى قسمين ،، منهم من أيَّدَ الانتظارَ إتباعًا لقولِ اللهِ عزَّ وجلَّ "فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ. ........" الآية .
ومنهمْ منْ أيَّدَ تأدية الصلاةَ لوقتها وفي هذا آياتٌ وأحاديثٌ كثيرةٌ وأوامرُ ونواهي أكثر ،، فلمَّا علا الصوتُ في المسجدِ ،، تبسَّم الشيخ الإمام تبسمَ الواثقِ وقال:
وهذا ما حدث بالفعل ،، انقسم الناس بين مؤيدٍ ومعارضٍ وفي كلٍ خير !!
ثم أسقطَ فضيلتهُ المثلَ على الواقعِ المُعاشِ في بلدتنا ،، حيثُ انقسمَ النَّاسُ في القضيةِ الشائكةِ والتي تمرُّ ببلدتنا أو التي بلدتنا تمرُّ بها إلى قسمين ،، قسمٌ مؤيّدٌ البراءةَ ،، ويرى أنَّ السيدةَ مظلومةٌ ،، وقسمٌ مؤيد التهمةَ ويرى أنَّ السيدةَ قاتلةٌ زانيةٌ ،، بل ويهيلُ الترابَ على ذكراها مستخدمًا أذنابهُ وكلابهُ ،، منْ أولئك الموتورين والجهلاء وأنصاف الرجالِ .
وفي هذا يرى فضيلتهُ أنَّ كفتيّ الميزانِ متساويتان ،، وانْ لا فرقَ بينَ من أيدَ ومنْ عارضَ فالكلُّ – من وجهة نظره – على الحق !!
*    *    *
وإنْ كنتُ قد صوَّرتُ بخيالِ الكاتبِ الصورةَ التي كانتْ عليها بلدتي عندَ سماعِها بشير الخيرِ يعلنُ مجيء المُخلِّصِ منْ أقاصي الأرضِ رافعًا سيفَ العدلِ ،، وإنْ كنتُ قدْ صوَّرتُ بخيالِ الكاتبِ صورةَ المسجدِ في بادئ الأمرِ وهو مُشرئبٌّ عنْ بكرةِ أبيهِ ينشُدُ النَّصرَ ،، لكنْ معذرةً منكم فخيالُ الكاتبِ هذه المرة لنْ يستطيعَ أنْ يصوّرَ لكم حالَ النَّاسِ بعدما سمعوا هذا التنظيرَ البعيد كلَّ البعدِ عنْ الحقيقةِ ،، ولن يستطيعَ خيالُ الكاتبِ أو واقعهُ أنْ يرسمَ خطًا بيانيًا لمعدلِ الإنحدارِ الذي سجَّلهُ سهمُ الشيخِ الإمامِ والعالمِ الدكتور لدى العامةِ بعدَ سماعِهم هذا الكلام.
وتمثَّلَ رجلُ الشارعِ والفلاحِ البسيطِ الأمثالَ ،، فقالوا وأنا معهم ،، لقد سمَّتْ أمُ جريجٍ وجوهَ منْ اتَّهموا جريجًا ظلمًا بـ "وجوه المومسات" فقالتْ وهي تدعو عليه "اللهم لا تمِتهُ قبلَ أنْ يرى وجوهَ المُومِساتِ" فكانَ ما كانَ منْ اتهامٍ باطلٍ من إحدى الساقطاتِ التي سيقتْ إليه وأُجِّرتْ عليه وكُلفتْ بهِ فلما كانَ يومُ عقابهِ ومشى إلى قصرِ الملكِ حاسرِ الرأسِ مطأطئ العنقِ ،، رفعَ رأسهُ ونظرَ حولهُ فرأى الظالمينَ والظالماتِ يسعى خبثهم بينَ أيديهم فتذكَّرَ دعوةَ أمهِ وعلمَ وأيقنَ أنَّها قدْ حاقتْ بهِ وها هو يرى وجوهَ المومساتِ !!
وتمثلَ ذاكَ الرجل البسيط قصةَ أبي أيوبٍ الأنصاري لمَّا قالَ لأمِّ أيوبٍ نافيًا التهمةَ عنْ السيدةِ عائشة "والله إنَّ هذا أفك مبين"
ثمَّ أتوجهُ لفضيلتهِ سائلًا سؤالَ المستفهمِ البسيطِ وحاشى للهِ أنْ أكونَ منَ المكابرينَ أو المناظرينَ ،، فما يكون لمثلي الضئيل أن يناظرَ منْ هو في نصفِ قامتهِ ، وعلمِ فضيلته ،، أقول مستفهمًا:
هل يستوي عندَ فضيلتكم منْ أحسنَ الظنَّ ولو خابَ ظنهُ معَ منْ أساءَ الظنَّ ولو أصابَ ظنه ؟
وهل يستوي موقفُ مسطح بن أثاثة وموقف أبي أيوب الأنصاري ؟
وهل يستوي عندنا عبد الله بن أُبي بن سلول وسعد بن معاذ ؟
وهل يستوي موقفُ حسان بن ثابت وموقف أسامة بن زيد ؟
وهل يستوي ما قالتهُ حملة بنت جحش وما قالتهُ أم أيوب ؟
ألمْ يسمِّ اللهُ تعالى منْ خاضَ ولمْ يأتِ بالدليل بـ (الكاذبين) في قوله:
{لَوْلاَ جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ }
وسمى الذين نفوا التهمة عن المتهمة - عائشة - وبدون دليلٍ أيضًا إلا حسنُ الظنِ كما الحال معنا بـ (المؤمنين) في قوله:
{ لَوْلاَ إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُّبِينٌ } ظنَّ المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيرا (وقالوا) أي المؤمنون !
أم أنَّ هذهِ (الواو) ليستْ واو عطفٍ أستاذي ؟ وهي تعطف قالوا على ظنَّ أي (ظنوا وقالوا) والفعلُ عائدٌ على المؤمنين
وفي تفسيرِ الآيةِ وأسبابُ النزولِ ذكرَ المفسرونُ أنَّ صاحبَ المقولةِ كما أسلفنا أبو أيوب الأنصاري الذي قال لزوجهِ إن هذا إفكٌ مُبينٌ ،، ومن هنا نُجزم بأنَّ المسمون بهذهِ التسميةِ (المؤمنون) هم منْ أحسنوا الظنَّ بعائشة وصفوان بن المعطل رضي الله تعالى عن أمنا وعن الصحابي الجليل ،، إذنْ يا مولانا الفرقُ كبيرٌ بينَ من دافع بدون دليلٍ مستمسكًا بحسنِ الظنِّ بالمؤمنين ومنْ أتهمَ بدونِ دليل مستمسكًا بسوء الظن بالمؤمنين ،، سمَّى الله المنافحِين المدافعين بـ (المؤمنين)
وسمَّى المهاجمين المُلفقين القاذفين بالكاذبين ،، أعاذنا اللهُ وإياك والحاضرين من القسم الثاني والتسمية الأخيرة .
* * *
وبعد سماعِ القصةِ منْ أحدِ الرواةِ الثُقاتِ عنْ السيدِ الأستاذِ الدكتورِ الشيخِ الإمامِ ،، وعمَّا دارَ في المسجد ،، أصبتُ بخيبةِ أملٍ فادحةٍ دأبي كدأبِ أخوتي وأهلِ بلدتي ،، وقلتُ بصوتٍ خفيض "تجري الرياح بما لا تشتهي السفن" وإذا بصوتِ قريبي الأجشِّ يرنُّ في أعماقي مصححًا لي النطقَ "السَفِنُ" بفتح الـ س ،، وهنا ضقتُ ذرعًا بقريبي وبثقافتهِ السطحية وقلتُ: إنْ كانت سُفنًا أو سَفِنًا فالمُحصلةٌ واحدةٌ وهي أن الرياحَ لم تأتِ بما يشتهي الصنفان ،، رحمَ اللهُ قريبي وغفرَ لهُ ،، وأصلحَ الله الأحوالَ في بلدتنا ،، ورفعَ الغشاوةَ عنْ أعينِ كلِّ ضالٍّ ،، وألجمَ اللهُ كلَّ مُتقَوّلٍ بلجامٍ من نار ،، أشكركم
  .....

______________________

بقلم / مصطفى كامل زلوم 



0 التعليقات:

إضغط هنا لإضافة تعليق

إرسال تعليق

Blogger Widgets

الجزيرة بث مباشر

Twitter Delicious Facebook Digg Stumbleupon Favorites More