منشورات المدونة

الثلاثاء، 28 أغسطس 2012

حكاية كشك



مهما اختلفت أشكاله وألوانه وطبخاته يبقى الكشك المصري "الصعيدي" لغزًا محيرًا لمن أراد أن يبحث عن أصول الأشياء وتاريخ الشعوب !

ما أن يطل علينا شهر يوليو "تموز" نحن أهالي الصعيد ومحافظة المنيا خاصة وأهل دلجا خاصة الخاصة إلا ويتبادر فورا إلى الأذهان العملية الغذائية القومية الشاقة والمشتركة ، صناعة الكشك ، أو إعداد كشك الطعام !
ومنذ نعومة أظفارنا ونحن نشارك في صناعة هذا المأكول الغريب والعجيب ، إما إيجابا أو سلبا ، بمعنى: أن نكون أفرادا صالحين في إعداد المأكول بمشاركة أهلنا فيه ومد يد العون إليهم ، أو نكون - ونحن أطفالا - لا علاقة لنا بهذا النوع من الطعام – بعد الأكل - إلا أن نكون محتفلين ومشاركين بامتياز في عُرس الكشك السنوي.

ردَّدت كثيرا ذلك السؤال الذي كان يقفز من فم أمي رحمها الله كل عام ، وعند التأهب للترتيبات الأولية لدخول المعترك (الكشكي) السنوي وهو: من أخترع الكشك ؟ فكانت أمي تقولها بعدما تدعوا على ذاك الكسلان الذي أخترع الكشك ، أو هذا النوع من الطعام الذي يكفي مؤنة عام كامل ، فكانت بعدما تمطره بوابل من الدعوات ، تسأل نفسها تارة ، أو تسأل جاراتها اللاتي جئن لمساعدتها تارةً أخرى "من الذي اخترع الكشك" لكن دائما كانت المسئولات لسن أحسن حظا من السائلة ، فكانت الإجابة كل عام تقيد ضد مجهول ، مما دفعني بعد هذا التسلسل الزمني للأحداث ، وكثرة وتراكم الأسئلة السنوية إلى أن أفتح هذا الباب الغامض والذي لم ولن يطرقه أحد ، ربما لخصوصية هذا النوع من الطعام ، أو لأن الناس أصبحوا لا يهتموا بهذا النوع من أنواع البحث ، ومع دخول الصيف هذا العام ، ترددت كثيرا في نشر هذا الموضوع والذي استوثقت منه منذ أكثر من خمسة أعوام كاملة ، وفي النهاية نشرته من باب الأمانة العلمية ، ومن باب المعرفة التي لطالما تعطشنا إليها دائما ، ومهما كان الموضوع غير ذي أهمية – أو كذلك يبدو - لكن المعلومة هي الأهم ، وربما المعلومة المكتسبة من وراء موضوع غير هام ، تكون تعويضا عن ساعات القراءة وتعب التمحيص .

تنفق قرية دلجا سنويا ما يقترب من مليونين إلى ثلاثة ملايين جنيه على صناعة أو إعداد "أكلة" معمرة تدوم عاما كاملا "مشونة" داخل صوامع مخصوصة لهذا الغرض ، ومع دخول الصيف يتأهب أهل دلجا لذلك العمل السنوي الشاق ، يبدأ باختيار وانتقاه نوع ممتاز من القمح البلدي الأصيل ، ويا حبذا لو كان أبيضا ناصعَ البياض ، ثم تقوم النساء في البيوت بتنظيفه من عوالق الحصا الصغير والمجلوب معه من الأراضي الزراعية ، يكون التنظيف عادةً بالفرز اليدوي الدقيق أو مؤخرا بالغسل بالماء .
الخطوة التالية تكون "السلق" يتم سلق القمح بشكل كمي وكيفي ، يذهب ربُ الأسرة إلى "حلة" سلق القمح بالقرية ، وهي عبارة عن إناء ضخم كالذي يعدون فيه الطعام في القوات المسلحة والذي يسمونه مجازا "أزان" ، يتم السلق في حوالي ساعتين مع التبريد على المفروشات المصنوعة من الخوص.
يعود القمح إلى المنزل بعد تحوله إلى "بليلة" قمح مسلوق ، ثم يصعدون به إلى الدور العلوي للمنزل ليُجفف على أشعة الشمس المحرقة في صيف يوليو الحار.
يظل في الشمس من ثلاثة إلى أربعة أيام ثم يعبَّأ في الحاويات مرةً أخرى ليذهب للخطوة التالية وهي "الدَّش" أو التكسير وليس الطحن الناعم !
يذهب ربُ المنزل به إلى طاحونة أو "مدشة" تشبه الطاحونة إلى حدٍ كبير لكنها أكثر حنانا على حبات القمح المسلوقة والمجففة بأشعة الشمس ، فلا تطحنها كل الطحن بل تكسرها إلى ثلاث قطع ، مع ما يتخللها من إفرازات ناعمة أخرى يتم التخلص منها أثناء الغربلة التالية للدّش .
ثم مع الخطوة السابقة "الدش" يسارع ربُ المنزل بشراء "اللبن الحامض"
وهو أحد مشتقات الألبان ، أو كان كذلك يوما ما قبلما ينزع منه الدسم الكامل ، ثم يخزن في "أزيار" جمع (زير) مصنوعة من الفخار ويعتق لمدة عام كامل قبل طرحه للبيع ، وهو عادة يجلب من مدن وقرى شمال غرب المنيا ، وله تجَّاره وتجارته التي تنتعش حتما مع دخول الصيف واقتراب موسم الكشك الصعيدي أو الدلجي
يشتري رب المنزل أكياس اللبن والتي تُوزن بوحدة وزن تسمى (الصفيحة) على اعتبار أنه من ضمن السوائل ، ويقدرُ الحاذقون في الصنعة الكمية المناسبة لإعداد "أرادب" قمح أو كشك ، وهي الكمية التي تناسب البيت فوق المتوسط في بلادنا ، أما البيوت الأكبر عددا وأكثر إمكانياتا فمن الممكن أن تكون كفايتهم أكثر من أرادب قمح في العام
يترك اللبن داخل أكياسه القماشية ليُصفى من الماء المالح ويتحول بعد ثلاث أيام لمادة صلبة ، مع تزويده من حين لأخر بالماء النظيف ، ثم تجمع ربة المنزل جاراتها من النساء ويقمن بالـ "حم" ولا أدري من أين جاءت النسوة بهذا المصطلح الغريب ، الحم ، وهو خلط القمح أو البليلة اليابسة والمكسَّرة مع اللبن الحامض والمزود بالماء النظيف داخل أواني ضخمة تصنع عادةً من الألمونيوم.
يُترك نصف يوم على هذه الحالة حتى يختمر ، قبل أن يفرَّغ على فراش يعد خصيصا لهذا الغرض ويتم الليلة كاملة إلى ظهر اليوم التالي أو إلى العصر قبل أن تبدأ الخطوتان التاليتان أو اللمسات قبل الأخيرة.

مع تأهب شمس اليوم التالي إلى الرحيل ، ومع بداية احمرار القرص الساخن يخرج رب المنزل إلى منتديات الرجال في القرية ، وغالبا إلى المقاهي أو ميادين العائلات العريقة بالبلدة ، فيُسر إلى بعض معارفه وأقاربه وأصدقائه ويطلبهم لأن يساعدوه في عمل الكشك ، وتسمى هذه الخطوة العجن أو إصطلاحا "المَلْكْ" بفتح الميم وتسكين اللام والكاف ، وهي عبارة عن عملية عجن جماعي يؤديها بامتياز الرجال دون النساء ، لأنها عملية عضلية شاقة إلى حدٍ ما ، ومن أهم ما يميزها  أنها بدون أجر ، فتكون دائما بالـ "عشم" الريفي المتوارث ، وتنتهي العملية بالعشاء الطيب والضحكات الصافية ، وكل عام وأنتم بخير.
بعد رحيل الرجال عن المنزل تبدأ موقعة النساء الحامية والتي تمتد عادةً إلى الساعات الأولى من صباح اليوم التالي ، تُزينها الضحكات والقفشات النسائية الريفية الذكية حينا والخبيثة أحيانا ، أما عن طبيعة عملهن فهي عبارة عن تقطيع العجين إلى وحدات تقديرية ثم تدويرها وتحويلها بكف اليد إلى كرات صغيرة تقارب الواحدة كرة "البينج بونج" تقريبا.
بعد ذلك يتم تجفيف الكشك فوق الأسطح ومرة أخرى على أشعة الشمس الحارقة كما فُعل مع القمح في بداية العملية ، فيُنشَّر في الشمس ثلاثة أيام أخر لييبس تماما ثم ينقل إلى الصوامع المصنوعة من (الطين) ليُخزن عاما كاملا يؤخذ منه كل يوم بمقدار حتى ينفذ.

 يكون الكشك حاضرا على وجبة الإفطار كل صباح ، فيعد في دقائق معدودة ، بأن يغمر في الماء البارد لمدة خمس دقائق ثم يؤكل طريا بعد البل ، أو يبل في الماء الساخن ثم يُصفى من الماء ويغمر بالسمن البلدي واللبن الحليب ، ومن الناس من يزوده بالسكر ، كما أني قد أدليت بدلوي فيه فأضفت إليه بعد البل بالماء الساخن والتصفية من الماء أضفت السمن البلدي وعسل النحل ، فكان شهيًا للغاية ، هذه لمحة بسيطة عن الصورة النهائية الكيفية لمأكول الكشك بعد الصناعة الأولية والإعداد الكمي العام.

بدايةً لنلقي نظرةً عابرةً على الكلمات والأسماء المستعملة والمُطلقة على هذا النوع من الطعام البسيط والذي يُصنع من مواد قريبة منا ، ونعرفها عز المعرفة ، ولكن على سيرتها الأولى ومن أسمائها الأولية مثل: "قمح" و"لبن" أو حامض اللبن أو اللبن المعتق أو القديم ، لكن حينما يختلط النوعان ليكمل أحدُهما الأخر يتحولان إلى أسم طعام له طبيعة خاصة وله اسم خاص به (كشك) أما سلسلة الأسماء على التوالي فهي كالتالي:
(قمح – بليلة – دشيشة – حَمْ – عجين – كشك) وأما عن أسماء العمليات المشاركة في صنع الكشك فهي:
(سلق – دَشّ – حَمْ – مَلْكْ – تقطيع – لَمْ) وهناك أسماء لأشياء مساعدة وعمليات جانبية مثل: ما يُطلق عليه (عنقط) وهو الشيء الناعم أو "الباودر" الذي يُفرز من ناتج غربلة الدشيشة أو القمح المكسر والمسلوق ، وهو عبارة عن دقيق أصفر شبه ناعم ، تقوم بعض النساء بإعادة تدويره مرة أخرى بدلا من التخلص منه بعجنه مع قليل من اللبن الحامض ، فينتج عنه نوع رديء ناعم من الكشك والغريب يطلقون عليه أسم (كشك الباشا) ويكون برغم رداءته ناعم الملمس أبيض اللون صغير الحجم نوعا ما عن الكشك العادي ، لكنه شيء بدلا من القمامة ، يتم التخلص منه فور تجفيفه بأن تأكله الطيور الداجنة أو الحيوانات الساكنة مع الفلاح ، لكن غالبا لا تأكله الأسرة ، لكن الغريب هو المُسمى (كشك الباشا) ولو بدأنا البحث من هذه النقطة من الممكن أن نصل إلى حقيقة وهي أن الكشك كان قبل دخول الباشا إلى مصر ، أو إلى صعيد مصر ، فقد ظهر هذا اللقب التركي مع دخول العثمانيين إلى مصر في أوائل القرن الخامس عشر الميلادي ، فمن الواضح أن العامة كانت تكره هذا العنصر الدخيل ، فأطلقت أسمه على الجانب الرديء من الطعام ، أو ربما علامة على الحب للباشا وإكبارا له ، خاصة وأن منظر هذا النوع من الكشك أجمل من الكشك المعتاد بكثير ، أو ربما هي حكمة بالغة من حكم الشارع المصري القديم ، فيما تعني أن الطعام لا يُحكم عليه من حيث الشكل أو المسمى ، أو من حيث الفئة التي تأكله ، فربما طعام غالي الثمن بالغ الجمال يأكله علية القوم وهو رديء لا يحبذه العامة .
لكن وأيا كانت الحقيقة أو الرواية التاريخية تقول ، فالحقيقة الأكثر وضوحا والأشد صدقا هي أن الكشك كان حاضرا قبل دخول الأتراك مصر عام 1517 ، فألحقت الكنية على الاسم الأصلي ، فكان الاسم الأول "كشك" ثم أصبح كشك الباشا ، ومن هنا ندخل إلى دهاليز التاريخ المظلمة والتي ليست من الأهمية بمكان حيث يفرد لها المؤرخ ويعنون لها ويبوب لها أبوابا ، لذلك لن تجد بسهولة عنوانا في كتب التاريخ يقول: تاريخ صناعة الكشك في مصر القديمة ، أو أسم من اخترع الكشك في صعيد مصر ، لأن التاريخ عني منذ القدم ولا زال بالأحداث التي قد تؤثر في تنسيبه أو ترتيب أوراقه .
وبنظرة فاحصة على معاجم اللغة العربية ، وإن كانت اللغة هي مدخلنا للبحث والتوثيق ، نجد أنّ لسانَ العربِ قد ذكر كلمة "كَشكٌ" بفتح الكاف وتسكين الشين وضم الكاف بمعنى "ماءُ الشعيرِ" وأظنُ أنّ هناك ثمة خيطٌ رفيعٌ يربط بين المعنيين "ماء الشعير" طبعا بعد طبخهِ أو "سلقه" والقمحُ الذي يُسلق ليصير كشكًا فيما بعد !
قلنا أن الكشك كان حاضرا قبل دخول الباشا أو تلك التسمية أو "الرتبة" التركية إلى مصر في عام 1517 ، لكن منذ متى كان حاضرا على وجه التحديد ؟! هذا ما أعياني بحثا حتى أصل – ومن خلال أسطورة فرعونية – إلى ما يلي:

الكشك صناعة فرعونية:
تقول الأسطورة أن أحمس طارد الهكسوس (أحمس هو ابن الملك سقنن رع تاعا الأول والملكة  إياح حتب، وأخو الملك  كامس، آخر ملوك الأسرة السابعة عشر. في سن العاشرة تولى أحمس والذي يعنى اسمه وُلِد القمر أي:الهلال الحكم بعد وفاة والده ووفاة أخيه في الحرب ضد الهكسوس) لما أنتوى (أحمس) طرد الهكسوس الغزاة من مصر ، والذين اتخذوا من الدلتا مقرا لهم ، وكان أحمس يسكن ويحكم من طيبة – مصر العليا ، أنفذ عدة حملات عسكرية على معاقل الهكسوس في الشمال ، استكمالا لمعارك التحرير التي كان قد بدأها الملك الأب "سقنن رع" وأستأنفها من بعده ولده الملك "كامس" وجاء الدور على أحمس أبن التاسعة عشر ربيعا ليُكمل المشوار الشاق.
وفي رحلته النيلية من الجنوب إلى الشمال ، مر ببلاد الأشمونين وهي من أعمال المنيا ألان ، مجرد قرية صغيرة بها بعض الأماكن الأثرية الفرعونية ، أما قديما فكانت الأشمونين إقليما من أقاليم مصر الأربعة عشر القديمة أي "محافظة" تحل محل محافظة المنيا الآن ، كما كانت "القوصية" وهي مدينة من مدن محافظة أسيوط الآن إقليما من الأقاليم تحل محل محافظة أسيوط طولا وعرضا.
نقول: مر أحمس بمحافظة الأشمونين إن صحّ التعبير وبحكم ذاك الزمان ، فتوقف ليتزود بالمؤن والعتاد ، فنزل على المعابد المقامة على ضفة النيل الشرقية ، واجتمع بالكهنة الموجدين ، فاقترح عليه أحدهم أن يصنع له طعاما يتوفر فيه:
أولا: خفيف الوزن حتى يسهل حمله
ثانيا: لا يصيبه التلف "السوس" وخلافه لطول فترة السفر
ثالثا: يأكله الإنسان والحيوان
ولما كانت الأماكن المذكورة مروجا وأنهارا وكانا القمح والشعير عاملين رئيسيين ومحصولين أساسيين ، كانت ورشة العمل الخاصة بالقوات المسلحة الفرعونية مقرها الصحراء الغربية قبالة الأشمونين وهي منطقة "تونا الجبل" والبدرمان ودلجا أو "دلجة" كما ذكرها "المقريزي" ، لأن المزارع الخضراء حينئذ كانت شرقي النيل من تل العمارنة جنوبا إلى جبل الطير شمالا ، وكانت هذه المساحة بالكلية هي حدود إقليم الأشمونين !

لا ندري إن كانت الأسطورة التي حصلت عليها هذه صحيحة أم باطلة ، ولكن وإن كان الذين توصلوا لحل رموز الأحجار القديمة والشهيرة جدا أمثال "حجر رشيد" الشامخ ، ومن علماء الحفريات والفرعونيات الآن من يقول: أن معظم التراجم التي توصلوا إليها منذ زمن بعيد ، ومن هؤلاء العلماء الدكتور "وسيم السيسي" حادت عن الحقيقة كل الحيدة ! وقالوا بأن المصري القديم كان موحدا لله الخالق والذي هو في السماء ، ولم يكن وثنيا كما صوروه لنا ، وأن هناك لوحة منحوتة في مدخل معبد الكرنك تصور الجنة والنار وبينهما خيط رفيع يرمز للصراط المستقيم الذي ذكره الله في كتابة الكريم ، فإن كان الشك يُفسر لصالح المتهم كما ذكر القانون ، فإن الشك في صحة المعلومات التي ذكرت من مئات السنين عن الفراعنة تفسر لصالحي إن اتهمني البعض بالحياد أو الخطأ.

ومهما كانت دقة الرواية أو فهاهتها فإن الكشك برغم هذا يبقى السر الأكبر بين جميع المأكولات الصيفية ، ويبقى لغزا محيرا للباحثين ! 
____________________

مصطفى كامل زلوم

      
 

0 التعليقات:

إضغط هنا لإضافة تعليق

إرسال تعليق

Blogger Widgets

الجزيرة بث مباشر

Twitter Delicious Facebook Digg Stumbleupon Favorites More