منشورات المدونة

الأحد، 3 يونيو 2012

ثورةٌ في الإنعاشِ


 
يا لها منْ أيامٍ سوداءَ ، تلكَ الأيامُ التي حَكمنا فيها ذاكَ الوغدُ حسني مبارك ، والذي كانَ وزيرهُ الوغدُ الآخر "أحمد شفيق" ، أيام كان الإنسانُ المِصري لا يُساوي فيها الحيوان ، أو ربما الحيواناتُ في بعضِ دولِ الغربِ كانتْ لها كرامةٌ عنْ كثيرٍ منَ الرجالِ والنساء في بلادنا التعيسة .
يروي لي أحدُ الأصدقاءِ ويُسمَّى "أحمد" قصةً في غايةِ البؤسِ والحزنِ والظلمِ .. وكان لقاؤنا هذا في أيام الحكم البائد ..
يقول: 
منذ تسعةِ أعوامٍ قُبض على أخي الصغير أسامة ، وكان أيامها طالبا في كلية الصيدلة ، لا لجرمَ لهُ سوى إنَّهُ كان لهُ صديقٌ من جماعة الإخوان المسلمين بأسيوط ، وكان يسكن في المدينة مع صديقٍ آخر من المنيا كان خاله ينتمي للجماعات الإسلامية ، في الوقت الذي كان أخي لا ينتمي لأي من هذه الجماعات ، لا الأولى ولا الثانية ، بل أكاد أجزم بأن أخي لم يكن يتم صلاةً ، بمعنى لم يكن من المجتهدين في الدين حتى في الصلاة ، تم القبضِ عليه فجرَ يومٍ أسودٍ لا يُنسى ، فلما علمت ذهبتُ إلى كل المعارف من الضباط ووكلاء النيابة والمستشارين فلم يُجبني أحدٌ ، إلا أحدَهم أرشدني أن أذهبَ إلى ضابطٍ في أمن الدولة كان لواءً ومفتشًا لهذا الجهاز الملعون ، فلما وصلت إلى مكتبه بأسيوط وكدتُ أقبِّل الأرضَ تحت أقدامهِ، أعلمني بالكادِ وبعدَ عدة زيارات وملايين التوسلات عن مكان "أسامة" حيث كان مسجونًا على ذمة الاعتقال في معتقل العقرب بالوادي الجديد ، وبعدها أفهمني أحدُ الضباطِ المعارفِ أن الأمر كله معقودٌ بيد ذاك اللواء البغيض المجرم ، المهم – لم أستطعْ فعلَ شيء إلا الدعاءَ ، ثم انتظمتُ في الزيارات ، حيث كنتُ أضربُ أكبادَ الإبلِ ذهابًا وإيابًا كل شهر ، أركب القطار ، ثم سيارة أجرة ، ثم أكمل ما يزيد عن خمسة كيلومترات على قدمي في الصحراء ، حيث أن السيارات لا تصلُ إلى المكان إلا قبلهُ بهذه المسافة.
أطرقَ صديقي أحمد إلى الأرض وتنهدَ تنهُّدَ الحزينِ المكلوم ثم أردفَ يقول:
وفي أحدى الزيارات التي لا أنْساها ، نزلت من القطار وركبت في صندوق السيارةِ الفقيرةِ كالبهائم ، وإذا برجلٍ كبير مُسنٍّ يجلسُ قبالتي لا يكادُ يلتقط أنفاسه ، يظهرُ ضيقُ التنفسَ على وجهه وعلى وجنتيهِ الحمراوتين وعلى أنفه المتحَفِّز المنتفشِ ، وعلى عروق عنقهِ التي نفرت فبدت كفروع الخيزران ،
يتصببُ العرق من جبينه لامعًا كشعاع القمر في ليلة ظلماء ، يرتفع صدره وينخفض في رتابةٍ تصيبُ الناظر إليه بالضيق ، يجلس وبجواره وفوق قدميه حاجيات كثيرة ، صناديق ورقية "كراتين" تفوح منها رائحة الطعامِ ، وسَبَتٌ من الخوص رُبما به "خبز" ، جلست أنظر إليه مليًّا وهو لا ينظر إلى أحدٍ ، شغله الفكر فبدا كالتائهِ في ظلمات بحرٍ لجِّيٍّ ، وأخيرًا وصلت السيارة إلى محطتها الأخيرة لنبدأ مشوار السير على الأقدام ، هنا اكتشفت أننا طابورٌ طويلٌ ، بهِ نساءٌ ورجالٌ شبابٌ وشيخٌ واحد هو ذاك الرجل الذي أسترعى انتباهي ، انطلق الطابور البائس يتهادى عبر الصحراء القاحلة قاسية الحر ، حملت متاعي وانطلقت لأكتشف أن الرجل في مؤخرة القافلة يُعاني ، توقفت إلى أن وصل لي ، فعرضتُ عليه تخفيفَ الأحمالِ عنه ، فشكر في عزةٍ وكرامةٍ ، لكن الشباب أبوا عليه إلا أن يحملوا عنه ، فتفرقت حمُولته على ثلاثة أكتافٍ ، وسار الرجل فارغ اليدين لا يكاد يمشي ، ولما وصلنا للمعتقل كان الرجل قد أعياه المسير جدا ، لدرجة أن عمامته كانت تقطرُ عرقًا ، وعند باب المعتقل توجد شجرةٌ مورقةٌ ، أجلسنا الرجل تحتها ، لكنه طلب أن يرقد قليلا ، وبدأنا مشوار التوسل إلى الحراس أن يدخلونا مبكرًا حتى نعود إلى بلادنا مبكرين ، كان الشباب في حالة عراك مع الحراس ، والنساءُ في حالة ثرثرة ناتجة عن التعارف ، أما أنا فكنت أجلس عند رأس الرجل العجوز العاجز ، والذي بدأت أنفاسهُ تتلاحق أكثر وأكثر كأنهُ يعاني سكرات الموت.
سألته عن سبب مجيئه إلى هذا المكان الموحش فأكمل حديثا كنا قد بدأناه في الطريق أو تجاذبنا أطرافه فحسبٍ ، قال الرجل:
لي أبن ذكر على ستة بنات ، أسمه عماد حاصل على دبلوم فني متوسط يصلي الفجر منذ أن تعلم الصلاة ، رصدهُ أحدُ المرشدين فأبلغ عنه ، فأرسل إليه جهاز أمن الدولة ليأخذ منه كلمتين ، وفي مكتب الضابط سأله: لماذا تُصرُّ على صلاة الفجر يا عماد ؟
فأجاب: لأن الله أمرنا بها أن نؤديها لوقتها
قال الضابط: إذن أنت من الجماعات الإسلامية؟
قال عماد: لا والله لست من أي جماعة على الإطلاق
قال الضابط: طيب سب الدين بالأمر !!
فأجاب عماد بعدما وقف في حركةٍ لا إرادية "لا والله لن يكون يا عدو الله" 
فتفجرَّ الدمُ من عروق الضابط ، وأمر بضربه ضربا مُبرحا وتسليط الكهرباء على جسده وسجنه انفراديا وتعليقه من ذراعيه حتى أن ذراعهُ الأيمن قد شُلَّ تمامًا ، ومن يومها وأنا أدور خلفه من أبي زعبل إلى طره إلى المنيا إلى أسيوط إلى هنا ، وليس لي مُعيل يحمل عني ، ليس لي سوى الله مُعينٌ.
 قالها الرجل وهو لا يكاد يُسمعَ له صوتا ، وبعد ساعات مرت كئيبة فُتح الباب الغليظ ذو الصرير العالي الفج ليخرج ضباط وبعض من العساكر في حالة استنفار مُفتعلة ، وبدأوا يوجهون إلينا الأوامر أن نصطف كأننا بمعسكر التجنيد ، ورصونا في طابور ، نساءً ورجالا بكل غلظة يدفعون النساء ويركلون الشباب ويهينون الرجال ، إلا الرجل العجوز الذي لم ينتبه لما طرأ علينا من جديد ، كأنه نام ، هكذا حدَّثت نفسي ، لكن لابد من إيقاظه ليُشاهد ابنه الوحيد ويأنس به قليلا ، خرجتُ من الطابور الكئيب وذهبت إلى الرجل الذي بدا كأنه مستيقظ لم ينمْ بعد ، شاخصًا إلى أوراق الشجرة فوق رأسه ، جثيت على ركبتي جواره ورتبت على كتفه في تحفظٍ وقلت "عمي الحاج .. يا عمي الحاج" لكنَّ الرجل لم يرد ، ولا زالت عيناه شاخصتين إلى الشجرةِ ، ارتبتُ في الأمر فلكزته في كتفه لكنَّ الرجل لم يتحرك ، صرخت فيه صرخةً مكبوتةً ، لم يكلمني ، تحشرجت الكلمات بل الحروف في حلقي فلم أكمل الكلام ، لكني هرولت نحو أولائك الرجال الواقفين في الطابور ، فأخبرتهم أن الرجل – زميلنا – ينامُ بدون حراك ، فرجعوا معي جميعا ، وأخذوا يقلبون فيه ، وتجهزت النساء لتؤدي دورها الذي تؤديه منذ آلاف السنين بلا تقاعس ، وبعدما فحصه الرجال جيدا أعلنوا بالإجماع أن الرجل مات ..
وهنا صرخت النسوة كأنه رجلهن ، وانهمك الرجال في تغطية وجهه الشاحب ، أما أن فانطلقت إلى العسكر والضباط الواقفين في ذهول يسألون "هو مات بجد .. ؟!"
فقلت لهم بصوت عالٍ: نعم مات ، مات واستراح من وجوهكم ، مات ، مات ، وعندها أنطلق نحوي ضابطٌ مشهرًا عصاه تُجاهي يعاونه بعض العساكر يريد أن يؤدبني على ما اقترفت من ذنب ، لكن الشباب توسلوا له ولهم أن يتركوني فتركوني ، ودخلوا إلى المعتقل ، وجلسنا نحن كأصحاب الرقيم ، وبعد برهة خرج ضابط برتبة نقيب ومعه ثلة من العساكر المدججين بأسلحة فض الشغب والتصدي للمظاهرات ، وبصحبتهم طبيب ، جثا الطبيب على ركبتيه ووقع كشفا سريعا بدون تروي على الرجل وكأنه حيوان نافق ، ثم أعلن في نبرة صارمة وبدون تعبير ويكأن وجهه قطعة من الصخر أن الرجل مات بسكتة قلبية ثم أنصرف وخلفه العساكر والضابط يتأبطه ويتجاذب معه أطراف حديث ضاحك !!
وهنا قمت أهرول خلفهما أنادي بصوت مبحوح عليهما سائلا أحدهما أو كلاهما ماذا نحن فاعلون بهذا الرجل الذي تحول إلى جثةٍ الآن ؟
فأجابا في صوت واحد: لا نعلم ، أتصرفوا وبسرعة قبل أن يأتي تفتيش وتخربوا بيوتنا !
فقلت لهما ومعي مجموعة الشباب: لو سمحتما لنا ندخله مستشفى السجن كي يكرم مثل موتى الإنسانية 
قالا: هذا ضربٌ من ضروبِ المستحيل ، الرجل ليس سجينا ولا معتقلا ولا محتجزا فكيف نُدخله مستشفى أميري ؟
فقلت لهما: طيب – هل من الممكن أن تعيرونا سيارةً تنقلنا إلى "العمار" كي نستأجر له "حانوتي" يكفنه ونوصله لبلاده ؟
قالا: ولا هذه ممكنه ولا نستطيع أن نفعلها ، إن الرجل رجلٌ "ملكي" ، ليس بالعسكري ولا بالسجين ، والقانون ...... إلخ
لم أتركهما يكملان الحديث ، فقد ذهبت في شبه غيبوبة فكرية وحسيةٍ أخذتني بعيدا عن المكان والزمان ، لم أفق منها إلا على وقع أقدامنا على رمال الصحراء ، ونحن سائرون نحمل الرجل على أكتافنا قرابة الثلاثة كيلومترات ، ولم نصل لنقطة تلاقينا بالسيارات "الموقف" حتى أدركنا سائق سيارة ربع نقل حمله عنا وحملنا معه إلى أقرب مدينة ، لتبدأ رحلة الدفن ، التي كانت نهايتها بلدة الرجل وبيته وستة بنات صغيرات كنَّ ينتظرن أباهن ليأتي إليهنّ بخبر جميل عن أخيهن ، فجاء إليهن جثة هامدة لا حراك فيها ، فكانت فاجعة كبرى حولت البيت بل البلدة كلها إلى عويل لا ينقطع.
وهنا صمت صديقي أحمد بعدما اغرورقت عيناه بالدموع ، وكأن الحادث كان بالأمس ، سألته وكيف حالُ أخيك الآن ؟ 
قال: هو بخير ، لقد تأقلم على جو السجن ، حتى أنَّه أتم سنوات دراسته بالصيدلة ، وهو الآن في آخر سنة.
وبعد ذاك اللقاء الباكي لم أرَ صديقي إلا من عامين وقبل ثورة يناير العظيمة ، عندها أخبرني أن أخاهُ قد خرجَ من المعتقل بعدما أحيل اللواء "مفتش مباحث أمن الدولة" بأسيوط إلى الاستيداع ، وكأن أسامة كان مخطوفًا لدى ذلك المُجرم ، فما إنْ خرج معاش حتى أنطلق أسامة لدنيا الحرية ، وصدقت نبوءةُ من أخبره آنفا أن الأمر بيد سيادة اللواء.
وبالأمس القريب جمعتني والصديق هذا صدفة غريبة لم أكن أنا ولا هو نتوقعها ، فإذا به ينفجر في وجهي صارخا ، هل سنترك شفيق يصل بنا إلى زمان مبارك ؟!
كان السؤال صعبا والإجابة أصعب ، وإذا بشاب ملتحٍ كان معه يحمل عني عناء الرد حين أنبرى لصديقي قائلا: على جثثنا يا أخي.
فلم اعبأ بالإجابة قدر ما كان حرصي أن أعرف من هذا !! فقال صديقي هذا أخي أسامة من حدثتك عنه .
قلت له: مرحبا بك يا بطل ، هل أنتَ مستعد لدخول المعتقل مرةً أخرى ؟
 قال: بدون ذنب (لا) ، أما أن أدخله متظاهرا وثائرًا ضدَّ شفيق فهذا أسمى أمنية عندي حتى لو لم أخرج مرة أخرى ولم أرَ النور ثانية ، عندها استبشرتُ بقوله هذا وعلمت أن الثورة لا زالت تتنفس وإن كانت في الإنعاش 
__________
قصة من الحياة ، حدثت بالفعل لصديق لي ، وما كان منَّا إلا الصياغة فقط ، أما شخوص القصة فحقيقيون لا يزالون على قيد الحياة ، القصة مهداة لكل من سولت له نفسه المريضة إنتخاب المجرم ربيب المجرم سادن المجرمين

بقلم / مصطفى كامل زلوم

0 التعليقات:

إضغط هنا لإضافة تعليق

إرسال تعليق

Blogger Widgets

الجزيرة بث مباشر

Twitter Delicious Facebook Digg Stumbleupon Favorites More