منشورات المدونة

السبت، 7 يناير 2012

إعـلام بلا ضـمير


الكلمةُ أمانةٌ، لا شكَّ في ذلك، والمِنبرُ أيضًا أمانةٌ، ولمْ يكن المنبرُ أمانةً إلاَّ لأنهُ ناشرٌ للكلمة، إذنْ جاءت قدسيَّة المنبر من قداسةِ الوظيفة التي من أجلها كان المنبر، والمنابرُ أنواع شتى، منها ما هو مسموعٌ، وهذا هو المنبرُ في شكلهِ الكلاسيكي، ومنابرٌ أخرى عديدةً تعارفنا عليها واصطلحنا على تسميتها منابر، فكل ما يُعلِّمُ الناسَ ويوجههم فهو منبر، لذلك كان النبي الأمينُ صلواتُ اللهِ وتسليماته عليه إذا أراد إذاعتَ شيء لعامةِ المسلمين صعدَ المنبرَ، وقبلها يأمرُ المؤذنَ أنْ يؤذنَ في الناسِ ليجتمعوا، حتى لو كان الآذانُ في غير ميعاد صلاةٍ.
إذن الإعلامُ خطواتٍ، أولها جمعُ الناسِ، ثم توجيههم من خلالِ المادةِ التي تُطرحُ على الناسِ المجتمعين، تمامًا "مع الفارق" ما يحدثُ في أيامنا هذه، يُذيع المذياع أو القناة أو الجريدة عن أنَّ شيئًا هامًا سوف يُطرحُ بعدَ قليلٍ، أو ما يُسمى بلغةِ الإعلامِ "تنويه" ثم يُبثُ الخبر، هذا هو (أ – ب) إعلام، ثم تأتي الأيدلوجية الخبرية أو المادة المُراد تمريرها بعد ذلك، وهذا يتطابق مع توجهاتِ القناةِ أو المنبرِ الذي أسلمنا لهُ عقولنا وأفئدتنا، وتكمنُ الخطورة في التسليم !! فنحنُ حين نُسلمُ أجسادَنا للطبيبِ الجراح تحتَ تأثير المُخدر، لا نكونُ مُتأكدينَ من عودتنا إلى الحياةِ مرةً أخرى، لكن ما رسخ في عقولنا وقلوبنا أنَّ هذا الطبيب رجلٌ "أمين" ولذلكَ أسلمناهُ أرواحَنا الغالية !! مع وجودِ غير الأمين في هذه المهنة التي أردتُ أن أضربَ بها المثل، لكنَّ الغالبَ الأعم، أو الطابع العام أو القاعدة تقضي بالأمانة، مع وجود شذوذ للقاعدة، وأي قاعدة لها شذوذها، والذي يثبت القاعدة. 
ولمَّا كانت الكلمةُ أمانةً، وبالتالي أصبحَ المنبرُ الذي يخدمُ الكلمةَ أمانةً هو الآخر، أضحى علينا واجبٌ ثقيلٌ حيالها، فإن كُنا متلقين أو إعلاميين وجب علينا التحري، والتحري الدقيق في حالةِ الإعلام، حتى في حال التلقي أيضًا وجب علينا التحري، فلا نجعلُ من عقولِنا ملاعب وساحات شعبية لكل فريقٍ أرادَ اللعب فيها أن ينزل، لأنهُ ليس بالمُسلَّم أن تكونَ الكلمة الصادرة من هذا المستطيل "التلفاز" صحيحةً إلى آخر حدٍ، فلم أنسَ ذلك المشهد القصير في أحدِ الأفلام المصرية والذي استوقفني كثيرًا ولولاهُ ما كتبت ما كتبت !! والذي كثيرًا ما يقفز لمُخيلتي، خاصةً حين أكذِّبُ خبرًا يحكيهِ لي أحدُ الأصدقاء، وأجدهُ قد ردَّ في ثورةٍ عارمةٍ قائلا: والله العظيم والله العظيم سمعته في التلفزيون !!
ففي فيلم (جواز بقرار جمهوري) والذي يعرفهُ الكثيرون بطولة: (هاني رمزي) و(حنان ترك) هناك مشهد للممثلةِ الراحلة (سناء يونس) والتي كانت تلعبُ دورَ والدةِ العريس "هاني رمزي" – وبعدما تفرقَ الحبيبان وعدلا عن فكرةِ الزواج، ودبَّ الخلافُ بينهما، وباءت كلُ المحاولات في الإصلاح بينهما بالفشل المُحبط، وأصبح الموقفُ حساسًا خاصةً بعدما أُعلن عن أنَّ رئيس الجمهورية سوف يحضرُ الفرحَ، أعلن التلفزيون في محاولةٍ للكذب الممنهج، ولتبييض وجهِ المسؤولين أمام الرأي العام العالمي "أن الخلافَ قد أُزيل، وأن الفرحَ سوف يتممُ في موعدهِ" وتسمع الأمُ الساذجةُ هذا الخبرَ، وبرغم أنَّ ابنها لا يزالُ مغلقًا البابَ على نفسهِ، ويرفضُ الإستماعَ لأي مُصلحٍ أو رسولٍ أو مفوضٍ، لكنها وبسذاجةِ العامة تتنهدُ عند سماعِ الخبر وتقول: الحمد لله، بل وتتأهبُ لأن تطلق "زغرودة" مصري مدوية، ولمَّا يتعجب ابنها الصغير من ذلك، تقول لهُ الأم: يعني هكدب التلفزيون يا واد ؟! 
غاية السذاجة وغاية الذكاء وغاية اللؤم !! غاية السذاجة من السيدة البسيطة التي جسَّدت دورَها الفنانة الراحلة سناء يونس، وغاية الذكاء من المخرج (خالد يوسف) أما اللؤم فهو من ذاك الإعلام المُغرض، والذي أرادَ أن يفضحهُ خالد يوسُف في مشهدٍ أقلَ من دقيقةٍ على الشاشةِ، ورُبما لم ينتبه لهُ الكثيرون، أو رُبما تناولوهُ من بابِ الكوميديا، لكنها الكوميديا السوداء، والتي نسخر فيها من أنفسنا، ونضحك فيها على حالنا.
وفي الفترة الأخيرة المحتدمة، والتي تصارعت فيها المصالحُ، وتبارزت فيها الشخصنة، ظهر وبوضوحٍ جلي لا يقبلُ التبيانَ أو الشرحَ أو الإرشاد، دورُ الإعلامِ في شحذِ الهمم وتلبيس "العمم" وغالبًا بيع الذمم، وما أردأها من بضاعة، بعدما تحول الإعلام إلى "دكاكين" وحوانيت "وحانات" تفضح نفسها، وتعرض ذاتها، فهذا رجلُ أعمال يسوِّقُ لبرنامجهِ الإنتخابي الضحل، من خلال قناة فضائية، وهذا آخرٌ يدافع عن ماضيه الأكثر ضحالةً، من خلال قناة فضائية، وهؤلاء خونة ومرتزقة ومأجورون، يروجون أفكارهم من خلال قناة أو عدة قنوات فضائية، وكلمة السرِّ في كل هذه القنوات هي اللعب على المشاعر، من خلال "فاترينة" أسمها الوطنية الزائفة، وصنم أسمه الثوار، وإله أسمه الشهداء، وفي بضع أيام انقلب المحاربون إلى موالين، وأصبح من كانوا ينافقون النظام، ينافقون الثوار، وغدا سينافقون النظام الجديد، ويا للها من مهزلة.
 
ففي صبيحة تنحي الرئيس المخلوع " حسني مبارك" نشرت جريدة قومية مشهورة، خبرًا غريبًا جدًا، مفادهُ، أن إسرائيل تعترف بأنَّ المشير محمد حسين طنطاوي "وزير الدفاع المصري" كان صاحبُ البطولات المؤكدة، وصاحبُ الدور الفعَّال في حرب أكتوبر، ولكن الرئيسَ الذي أصبح منذ سويعات الرئيس السابق، هو من أهدر دوره إعلاميًا، وظلل أسمه بظلالٍ قاتمةٍ حتى لا يراهُ أحد، وها هي إسرائيل "الصادقة" دومًا والمؤيدة للحقوق قد أظهرت دوره الذي هُمش بفعل فاعل، أي تهريجٍ هذا ؟! ومن متى يشهدُ الأعداءُ بالحقِ ؟ خاصةً لو كانوا يهودًا، معروفٌ عنهم الضلال والتدليس ؟ وهل هي إسرائيل التي أرادت التلميع أم هو منهاج الجريدة، البحث عن الزعيم وتأليهه ؟ أظن أنَّ الإجابة واضحة.
يكذب الإعلام ويتخبط في ظلمات الخداع، يكذب الإعلام لأنهُ كذَّاب بفطرتهِ، ويصدَّقُ العامة كل ما يقال، لأن للمستطيل سحرٌ لا يقاوم، وطالما شمرَّ المذيع عن ضميره وأذاع الخبر، إذن هو الحق المبين، ونسي الناس إعلام النكسة، (5 يونيه – حزيران 67) حين أوقع حوالي ثلاثمائة طائرة للعدو في أقل من عشر ساعات، وفي اليوم التالي أصبحوا خمسمائة، وفي اليومِ الثالث أصبحوا ستمائة، حتى أمسينا على مشارف تل أبيب، وإلى الأمام إلى الأمام، وبعد أقل من أسبوع أذاعت إذاعات العالم "إلا نحن" أنَّ مصر قد منيت بهزيمةٍ ثقيلةٍ، وأنَّ سلاحَ الجو قد دُمرَ على الأرضِ، وأنَّ الجيشَ المصري قد مُزق كل ممزقٍ، وتاه في صحراء سيناء، وسقط القناع، وكانت النكسة، أو "الوكسة" هل نسينا هذا ؟ 
من أقوال الزعيم الإعلامي "جوبلز" والذي كان بمثابة وزيرَ إعلامِ "هتلر" إبَّان الحرب العالمية الثانية، (أعطني إعلامًا بلا ضميرٍ، أعطكَ شعبًا بلا وعي !) وها هو إعلامنا ينفذ المنظومة الهتلرية كاملةً، أو يمشي على هدى "جوبلز" فقد تطوع الإعلامُ أن يكونَ بلا ضميرٍ، حتى يُحولنا إلى شعبٍ بلا وعي، لكن لحسابِ من هذا ؟ رُبما لا توجدُ إجابةٌ نموذجية الآن، لكن بعدما أسوق لكَ أنَّ معظم القنوات الفضائية الخاصة والشهيرة الآن لا تجني مكاسبَ تذكر، بل تحصدُ الخسائر المادية الكبيرة، في الوقتِ الذي يُقدِم رجلُ أعمال على شراء القنوات الفضائية الأخرى، حتى يصل رصيده إلى أربعة عشر قناة، فماذا يعني هذا ؟! هل هناك تمويلٌ من جهات مجهولة ؟ أم أن الرجل يفعل هذا إبتغاء وجه الله ؟! ولو كانت الإجابة الأولى، فمن تكون تلك الجهة المجهولة ؟ وما هدفها ؟
لقد رأينا وتابعنا ما فعلهُ الإعلام حيال المظاهرات الأخيرة، ورأينا وسمعنا وفهمنا لغة الإثارة والتحريض، ممثلةً في إعادة المشاهد المثيرة للعواطف عشرات المرات، وإلقاء الضوء على ثلة من المُخربين، وتلميع بعض المغمورين والمجهولين وتقديمهم إلى المجتمع على أنهم أبطال، ناهيك عن برامج "التوك شو" والتي أصبحت لغة العصر، فكل قناة تتفنن في اجتذاب الضيوف، فهذا دكتور في علوم الفتن، وهذا آخر في علوم الكذب، وهذا حاصل على أعلى الأوسمة في النفاق والتملق، وألسنة كم طنطنت ودندنت وسبَّحت بحمد النظام السابق، وبلمسة من مقدم البرنامج يمسي الضيفُ بطلًا كبيرًا ومجاهدًا صلدًا ومكافحًا ضخمًا، ويا للعجب !!
إنها الحرب يا سادة، فالحرب الجديدة غير تقليدية كما كانت بالأمس القريب، هي حربٌ ليس فيها بندقية أو مدفع، بل حربُ الأثير، ولن يقضي عليك قبل أن يقضي على عقلك، ومفتاح العقل البصر، وحارس العقل السمع، وهو لا يريد غيرهما، هي حربٌ أشد فتكًا من تلك التقليدية الدموية، هي القوة الناعمة، فأعدائنا ليسوا مسلحين بالرصاص، لكنهم مسلحون بما هو أشد وأكثر وأقوى فاعلية، وفي نهاية حديثي الذي بدأته بأمثلة، وسأنهيه بمثال يُضاف إلى كم الأمثلة السابقة، في كتاب "خريف الغضب" للكاتب الصحفي الكبير (محمد حسنين هيكل) في الباب الثالث الفصل الأول يقول المؤلف، وإن كنت أختلف معه شكلًا وموضوعًا "لقد جاء أنور السادات إلى شعبهِ مسلحًا بالكاميرا، فلم يكن يضيع فرصةً إلا وظهر فيها من خلال الكاميرا التي كانت لا تفارقه إلا عند النوم" انتهى كلام الأستاذ، ولست هنا مهاجمًا الرئيس الأسبق أنور السادات، أو مؤمنًا بما قالهُ رجل كل وزارة "هيكل" لكن أستشهد فقط بالمقولة، وخاصة التشبيه البليغ من الأستاذ، حين شبَّه الكاميرا بالسلاح، وهي كذلك بالفعل، سلاح قوي فتَّاكٌ والذكي هو من يحسن استعمالهُ ويجيد تصويبه، وقد صوبوه إلى عقولنا، بكل ضراوةٍ ودقة، فهل نتفادى الضربة ؟ أم نقع في فخ إعلام بلا ضمير ؟ أسألُ اللهَ أن يقينا شرَّ هذا الإعلام، وشرَّ كل من ليس له ضمير
_____________________

مصطفى كامل زلوم


0 التعليقات:

إضغط هنا لإضافة تعليق

إرسال تعليق

Blogger Widgets

الجزيرة بث مباشر

Twitter Delicious Facebook Digg Stumbleupon Favorites More