منشورات المدونة

الأربعاء، 28 ديسمبر 2011

من أول السـطر !!



«على سبيل التَّقديم»..

يختلفُ الناَّسُ هذه الأيامَ حولَ مُصطلحٍ جديدٍ قد ملأ السَّمعَ والبصرَ عبرَ وسائلِ الإعلامِ المُختلفةِ من مسموعةٍ ومقروءةٍ ومرئيةٍ ،، ووجهُ الاختلافِ يكمنُ فيمن يستحقُ أن يُسمى بهذا الاسمِ أو من يحقُ لنا أن نُطلقَ عليهِ هذا المُصطلحَ !! أمَّا المُصطلحُ ذاتهُ فهو «البَّلطجي – البَّلطَجِة – البلطجية» والَّذي ذاعَ صيتهُ هذه الأيام ،، خاصَّةً بعد قيامِ ثورةِ «25 يناير» المَجيدة !!

«ثمَّ أمَّا بعد»
كلَّما حدثَ حادثٌ في هذه الفترة الحساسةَ بالذَّاتِ ،، ترى الوجوهَ مُتجهمةً ،، والحناجرَ مُتحشرجةً ،، والتقاسيمَ مُنفعلةً ،، والأصابعَ كُلّها تُشيرُ إلى مكانٍ واحدٍ وفئةٍ واحدةٍ من فئاتِ المُجتمعِ المصري ،، وترى وتسمعَ كلماتٍ جديداتٍ علينا من ناحية «الهجاء» فقط !! قديمةً جدًا من ناحيةِ التواجد والتأثير في الأحداث ،، وعلى مرِّ العصورِ كانت تلك الفئة تتحكم في مصير ومُجرياتِ الأمور ،، وإن اختلفت أسماؤها من عصرٍ إلى عصرٍ ،، والمُتأملُ في طبيعةِ وتركيبةِ الشعبِ المِصري لن يقفَ كثيرًا أمامَ هذا المُصطلح ،، ولن يحتاجَ إلى شرحٍ وتبيانٍ لماهيةِ هذا المُسمى «البلطجي» فلو أنَّنا عُدنا بالبحثِ إلى عصورٍ مضت ،، أو قل قرونٍ خلت ،، فستجدُ أنَّ هناكَ تمواجاتٍ وتداخلاتٍ وامتزاجاتٍ عديداتٍ قد صبَّت في بوتقةِ المُجتمع والذي تشكلَ منها وجدانُ الشارعِ المصري في العصر الحديث .إنَّ المُجتمع المصري وعلى مرِّ العصور المُتعاقبة ،، لم يكن بمنأى عن ثقافاتٍ غريباتِ دخيلاتٍ مرت بهِ ،، "فمنذُ الفتحِ الإسلامي لمصر عام 641م – في غرةِ شهر رمضان عام 20 للهجرة" وهذا البلد الآمن يتقلب بين أمواجٍ من البشر ،،مروا بهِ أو مرَّ بهم ،، أثَّروا فيهِ أو أثَّر فيهم ،، فمن «أُمويين» إلى «عبَّاسيين» إلى «عثمانيين» إلى «مماليك» إلى «فرنسيين» إلى «عُلويين» إلى «إنجليز» ،، وما تخلل كلُ هؤلاء من دويلاتٍ حكمت بأسماء الدول ،، وشخصيات أثَّرت وتأثَّرت ،، ولكل دولةٍ ثقافة ،، ولكل دويلة ثقافة مُغايرة ومُجابهة للدولة التي ولَّتها ،، ولكل شخصٍ ثقافتهُ الخاصة التي رُبما كانت ضدَّ دولتهِ ،، كل هذا والمُجتمع يتلقى كل الثقافات ويصهرها بداخلهِ ،، ويدفنها بتربتهِ لتتخمر فيهِ ،، ثم تنبت لنا في النهاية هذه الشجيرات !! والتي رُبما لاقت إستهجاناً منَّا ،، لكنَّها نحنُ.
لن نذهبَ بعيدًا أكثرَ من الفتح الإسلامي لمصر ،، ففي عام 20 للهجرةِ النَبَويةَ على صاحبِها أتمُ التَسليماتِ ،، دخلَ «عمرو بن العاص» مصرَ فاتحًا ،، وإن أختلفَ البعضُ حولَ المُسمى ،، لكنَّهُ لم يكن غازيًا كما يُشككُ البعضُ والدَّليلُ على هذا هو ما قرأناهُ عن مدى تعسف وظلم الرُومان للمصريين ،، وكيفَ أنَّهم ساموهم سوءَ العذابِ ،، واستغلّوهم أسوءَ إستغلالٍ وفرضوا عليهم الضَّرائبَ الجَبريةَ التي وصلت حدَّ ضريبة «الموتى» وهذه الروايات ثابتةٌ في كُتب أولئكَ الذين لا يُعجبهم مُسمى فتح مصر ويستعيضون عليهِ بـ «غزو» أو«إحتلال» لكنَّها حقيقةٌ ثابتةٌ لا مَفرَّ لهم منها ،، وكان مع الفَّتحِ الإسلامي دخول الجنس العربي على الجنس القبطي المصري ،، أي دخول الفروسية على الوداعةِ،،فنتجَ عن هذا التمازج بعدَ فترةٍ جيلٌ وديعٌ ذو قشرةٍ فروسيةٍ زعامية ،، تظهر أحيانًا.وما لبثَ أن انتهى العصرُ المثالي عصر «الحُكم الرَّشيد» في المَدينة ،، بعدَ إندلاع الفتنةِ الكُبرى في زمان «علىُ بن أبي طالب» والتي كانت قد نَبَتت في عصر«عُثْمان بن عَفَّان» رضي اللهُ عنهُما ،، وبوصول «آل أمية» إلى الحكمِ دخلت مصرُ في حقبةٍ أخرى ورأت عربًا آخرين غير أولئكَ الفاتحين العِظام ،، فقد وردَ عليها عربٌ متآمرون وأشباهِ ملوك !! فقد استحدثوا نُظمًا جديدةً لتداول الحُكم لم تكن موجودةً في العصر الرَّشيد الأول ،، ومنها نظامُ التَّوريث ،، والذي بدأ بهِ «مُعاوية بن أبي سُفيان بن حرب» حينَ ألزمَ الولاة أن يأخذوا البيعةَ لولدهِ «يزيد بن مُعاوية» وما أدراكَ ما يزيد ؟! وهُنا بدأ المصري يفقد الثقة في أولئكَ العرب الآتين من وراء الصَّحراء ،، والذين داعبوا خيالهُ كثيرًا ،، وغازلوه أكثرَ ،، وجعلوه في بعضِ الأوقاتِ يتَشَبَّهَ بهم ،، هُنا أحسَّ المواطنُ المصري أن لا فرقَ بين الحُكَّام ،، وأنَّ الرومان الَّذين حكموهُ قرونًا عديدةً هم وهؤلاء العرب المثاليين سواء ،، وبدأ يربطُ ربطًا تاريخيًا بين ما كان يفعلهُ الرَّومان وما سيفعلهُ العربُ بعد فترةٍ بسيطةٍ ستكونُ حتمًا ،، ولم يجد بُدًا إلا المُهادنةَ وطأطأة الرأس مرةً أخرى بعدما كانت رأسهُ قد رُفعت شيئًا ما ،، لم يدم طويلًا ،، ومن هُنا تولَّدت لديهِ خصلةُ مُنافقةِ الحاكم بعدما أنتكسَ وكأنهُ مريضٌ لم يُشارفِ الشفاء بينما داهمه المرضُ وبأضعافِ شراستهِ ،، فأمسى الشفاءُ بعيدَ المنالِ .
في عامِ 750م هبَّت الثورة العبَّاسية من بلادِ «خرُسان» أو إيران حاليًا ،، بقيادةِ«أبو مُسلم الخُرساني » وتولى الخليفة الجديد الثائر«أبو عبد الله السَفَّاح» والذي كان أسمًا على مُسمى فقاتل ما تبقى من فلول بني أمية شرَّ قتالٍ وصل حدُّه إلى مصر ،، حيثُ تتبّع «مروان بن محمد» وقتلهُ في
موقعة «أبي صير» على مرأى ومسمَع من المُواطن المصري ،، والذي كان قد أدركَ الحقيقة حينها !! ،، دانت الدّنيا إلى العبَّاسيين واستسلمت لهم الأمصار بكاملها ،، لكنَّ الحاكم الذي وطئ الثُريا بالمؤامرة ظلَّ باقي حياتهِ نائمًا مغمضًا عينًا ومحملقًا بالأخرى ،، مخافة أن يحدثَ لهُ ما أحدثهُ هو بغريمهِ ،، فكان لزامًا لهُ جيشًا من «العسس والبصاصيين» وهُنا ظهرت الشرطة وكانت بادئ ذي بدء تهتمُ بحراسةِ بيت الخليفة والولاة في سائر الأمصار ،، وأيضًا جباية الضرائب ،، لكن في مصر كان الأمر يختلف قليلًا ،، فقد أضيفتْ إلى مهامها مهمةُ جباية الجزية من غير المسلمين ،، وهم الفلاحون الأقباط ،، وهُنا تولّدَ لدى المواطن المصري البغضَ الشديد للحاكم ،، لكنهُ كانَ يُدرك جيدًا أنهُ لا مناصَ من نفاقهِ ،، لأنَّ الحاكم غشوم ،، ولمَّا كان الحاكمُ غريبًا عن الديارِ ،، لجأ إلى الإستعانة بأهل البلد ليقيم الظلم بين أطيافِ الشعبِ ،، فكان الطابورُ الخامس من بني الوطن ،، والَّذي تطوّع لخدمة صاحب الشرطةِ في مهامهِ ،، والَّذي كان مُجبرًاعلى هذهِ الفعلةِ الدنيئةِ لأسباب منها: «الخوف – الفقر – البغض – عدم الثقة» وهُنا وجدَ المواطن المصري نفسهُ مُحاصرًا بجيشين ،، جيشٌ من الشرطةِ الحاكمةِ الغريبة عن البلادِ ،، وجيشٌ من بني جلدتهِ لم يعرف لهم اسمًا ،، فهم ليسوا بشرطة ،، وأيضًا ليسوا مواطنينَ عاديين مثلهِ ،، وأصبحَ يخشاهم أكثرَ من الشرطةِ ذاتها ،، لأنَّهم منهُ ،، وأدرى بحالهِ وأسرارهِ ،، كما أنهم غيرُ معلومي الملامح ليختبئ منهم ،، فهم «مُندسون» بداخلهِ ،، لذلك كان خطرهم أشدَّ .
ولمَّا بدأ الوهنُ يدُبُّ في جسدِ الدولةِ العبَّاسيةِ ،، بدأت الدويلات تستقلُ عن جسدها ،، فتوالت على مصر دويلات حكمت ظاهريًا باسم العبَّاسيين ،، لكنَّها كانت تحنق أيَما حنقٍ عليها ،، ومن هذه الدويلات:
«الطولونية – الإخشيدية – الفاطمية – الأيوبية - المملوكية» ومع ظهور هذه الدويلات ،، انحسرت أبّهةِ الخليفة الجالس في بغداد وسطوتهُ على الدعاء لهُ على المنابرِ يومَ الجمعةِ وفي العيدين ،، وصكِ أسمه على العملة فقط ،، فكان لابد لهُ من جيشٍ من العسس هو الأخر ليتجسس على ولاتهِ المناوئين لهُ ،، مع وجودِ جيش العسس الأول من قبل الوالي الحاكم الجدي للبلاد ،، فكان جيشٌ على جيشٍ ،، ولم يشأ المصري أن يجدَ مُصطلحًا للجيش الأول إلا وداهمهُ الجيشُ الثاني ،، فضاعت منهُ الهوية في أوطانهِ ،، وغُرّبَ عنها وهو فيها ،، فلم يجد إلا الإستسلامَ سبيلًا ،، والثورةِ الصامتة ،، وكانت هذه الثورة تتمثلُ في ،، إصدار الشائعاتِ على الحاكم ،، والتنكيت عليه ،، والسخريةَ منهُ ،، لكنَّ المواطن الصامت هذا كان قد ترسَّخ في قرارة نفسهِ أنَّ هذا الحاكم ظالم ولاأمان لهُ ،، وكان يتحينُ الفرصةَ لينقضَّ عليه ،، وكان الحاكمُ يُدرك ذلكَ جيدًا ،، وإلا لما أطلق عليه جيشَه وطابورَه الخامس .
ومع تعاقبِ الدويلاتِ ودخولِ الأجناسِ والهجراتِ من وإلى مصر ،، نشأت شخصية المصري أو تشبَّعت الشخصية الوديعة الطيبة التي تُشبه الأرض في دفئها ونمائها ،، إلى حدٍ كبير ،، بعصائر مجلوبةٍ من الخارج ،، فمثلًا أُدْخِلت عليها الشَّخصية الصحراوية القاسية ،، والتي تتخذُ من القتال والحرب منهاجَ حياةٍ ،، وتعتقدُ أنَّ الرجل لابد لهُ من سيف يحسم بهِ كل مشاكلهِ مهما كانت ضئيلة ،، ورُبما لقي الرجلُ حتفهُ من أجل «شاة» أو فتَكَ بآخر من أجل سقاية الغنم ،، وبعد حقبةٍ من الزَّمان تلَقّتْ الشخصية المصرية ثقافة جديدة تمشي على قدمين ،، ولكنَّها من أغرب الثقافات في العالم ،، كانت مع دخول الفاطميين مصر ،، فقد عَهِدوا إلى الخزعبلات ونشر التخاريف لكي تدِين لهم البلاد ،، كما أنَّهم أول من أدخل ثقافةَ شراء الذمم ،، وهذا ثابت في كُتب التَراجم القديمة ،، فقد ألقى أحد ولاة هذه الدويلة المالَ ذات ثورة على من ثاروا عليهِ ليفتدي نفسهُ منهم !! أمَّا الخزعبلات فقد رسَّبت لدى المواطن المصري !! أو بمعنى أدَقَّ الشخصية المصرية حالة اللا مبالاة ،، وحالة الإستهانة بكل مُقدسٍ لديها ،، بعدما رأت أنَّ الشعائر الدينية التي كان يُقدِّسُها من الممكن أن يغنّيها ويرقصها بل ويشربُ في نخبها أيضًا ،، ثم أنَّ هذه الدويلة كانت أول من أنشأ شخصية كانت غريبة على المُجتمع المصري ،، وهي شخصية «داعي الدُّعاة» والذي كان ظاهريًا يُشبه إلى حدٍ كبير «وزير الإعلام» في هذا الزَّمان ،، أمَّا باطنيًا فكان يشغل «رئيس المُخابرات» ليس شكلًا بل وموضوعًا أيضًا
فالدويلة التي استقلت رغمًا عن الدولةِ المُهيمنةِ على ثلاثةِ أرباعِ العالم ،، وأصبح لها كيان تَودُ أن تُحافظَ عليهِ ،، كانَ لابدَ لها من جهاز مخابرات يحميها ،، وكان لابد لجهاز المُخابرات الغريب عن البلاد ،، أن يستعينَ بجيشِ البصاصين والذي من المُفترض أن يكونَ من أهلِ البلدِ ،، وكان الجيشُ في إنتظارِ الإشارةِ ،، والَّذي كان قد ساءت حالتهُ الإقتصادية أكثر وأكثر ،، لذا كان إستعدادهُ لبيع نفسهِ أرحب !! الأمرُ الَّذي فطنهُ الحاكم الغني ذو المال الوفير ،، والَّذي لديهِ كلُّ الإستعداداتِ لشراء الكل بلا شيء.
!!«المماليك»
وتتوالى الأحداثُُ وتتعاقبُ الدويلاتُ في ظلِ الدولةِ العباسيةِ والتي حكمت ما يزيدُ على خمسةِ قرون ،، إلى أن نصلَ إلى الدولة «العثمانية» ولكن قبل الوصول إلى هذه المحطة الهامة من تاريخ مصر ،، والتي كان لها أبلغَ الأثرِ في تشكيل وجدان المواطن المصري ،، كان لنا أن نقف وقفةً اضطرارية مع حقبةٍ هي من أهم الحقب المؤثرة في تشكيل الوجدان المصري ! أو قل من اللبناتِ المكونة للشخصيةِ المصرية ،، وهي حقبة حكم «المماليك» والتي كانت في نهايات الدولة العباسية «في ظل الدولة الأيوبية» واستمرّت في ظل الدولة العثمانية ،، والسبب واضح من أسم الدويلة مماليك !! أي عبيدٌ يبيعون أنفسهم لمن يدفع الثمن ،، فكان المماليكُ المجلوبون من أقاصي البلاد « أورُوبا وآسيا» على اختلاف لهجاتها وعقائدها وأفكارها مستعدّين لبيع قواهم الجسمانية والعقلية لأي عابر سبيل ،، مماليك اختلفت ألوانهم ولغاتهم ولم يتحدوا إلا في شيء واحد ،، وهو الغريزة القتالية المتوحشة ،، والتي تجلَّت في خصالهم المُفترسة ،، فكان المملوك على أتمِّ إستعدادٍ أن يفقد روحهُ في سبيل بضع وريقاتٍ ،، كان القتلُ لغتَهم والفروسيةُ لعبتهم إلى جانب نعومةِ الملمس وجمالِ الخِلقةِ الأوروبيةِ والتي كانت الطابعَ الغالبَ في أشكالِهم ،، ومع الاختلاف الواضح في اللغات ،، والتوحد في المُعتقد ،، حيثُ أنهم كانوا يدينونَ جميعًا بالإسلام ،، إلا أنهم كانوا كما أُطلقَ عليهم بعضُ المؤرخون «أولاد بلد» ولكنَ هذه الصفة لم تكن أصيلةً فيهم ،، بل كانت مُكتسبةً من إندماجهم بالمصريين ،، فقد كان المماليك في بادئ الأمر يجدون صعوبةً في الوصول إلى اللهجة المصرية العربية ،، ولذلك كانت لغة القرءآن الكريم هي الحل للتفاهم مع المصريين ،، ومع وجود الأصل أو الأصول الأوروبية جاءت اللغة مشُوبَةً !! بمعنى كانت لغة عربية «مُكسّرة» ولذلك سخر المصريون منهم ومن لغتهم العربية الجديدة المُطعّمة باللاتيني ،، ومن هُنا سادتِ البلادَ لغةٌ جديدةٌ لم يعترفْ بها جهابذةِ اللغاتِ ،، ألا وهي لغةُ «الفهلوةِ» والتي ألتجأَ إليها المصري في التفاهمِ مع هذا المُحتّل غريب الأطوار ،، الفهلوة والتي تنحصرُ جُلَّ قواعدها في أن تَسْتنبِطَ من خلال الحركاتِ الجسمانيةِ ،، مُرادَ مُحدثك ،، ومن هنا نشأت الحركات الحوارية الجسدية في أغلب مُحادثات المصري !! فتجده يشِيحُ بوجهه ويحرك أصابعه وكتفيهِ ويضرب بكفٍ على كفٍ ويُصفق بيديهِ خاصةً لنادل المقهى !! وهذه الحركة لا تُوجد في أي بلد سوى مصر ،، ولو أنَّك تتابعُ برنامجًا تليفزيونيًا بدون صوتٍ ،، ورأيتَ حركاتِ يديّ المُتحدث بدون أن تسمع لهجته أو لغتهُ لفطنتَ إلى أنَّ ذاك المُتحدث مصري «ابن بلد» أمَّا عن خصوصيةِ الحكم ودهاليزيه فلم يختلف المماليك عن سابقيهم من الحُكام ،، بل بالعكس لقد أتفق المماليك وزادوا عمن سبقوهم من دويلات استقلت عن دولها ،، فإلى جانب الظلم ،، وتخصيص ثلةٍ من البصاصين والعسس من أبناء البلد الغيرُ أوفياء ،، كان للفقر عاملٌ كبيرٌ في انتشار الظلم ،، فلم يكن المماليكُ أصحابَ ثرواتٍ كمن سبقوا من الحُكام ،، أمثال الفاطميين مثلًا ،، ولذلك انتشرت أنواعٌ من الضرائبِ الغريبةِ مثلَ ضريبة الجواز وضريبة الدواب وضريبة البيوت وضريبة الدكاكين وضريبة الأسواق ،، إلى جانب «خراج» الزراعات والذي كانَ موجودٌ من ذي قبل ،، وظهر أشخاصٌ جدد مثل «المُحتكر» و«المُلتزم» والَّذين تفننوا في إزهاق روح المصري والتثقيل على كاهله،، الأمر الذي أعاد للأذهان زمن الرومان البغيض ،، فكان لهؤلاء المسلمين وأولئكَ العربِ الَّذين قفزوا على سُدة الحكم بعد إنهيار الخلافة الراشدة بمقتل «علي بن أبي طالب»- رضي اللهُ تعالى عنهُ أبلغ الأثر في زعزعة الثقة داخل ضمير المصري ،، الأمرُ الذي جعله لا يفرقُ بين حاكمٍ وحاكمٍ ،، بل سماهم جميعًا مُحتلين .
«العثمانيين»
في عام 699هـ بدأت أولى جحافل دولة بني العثمان في غزو البلاد العربية ،، الدولة الشابة التي أسسها «عثمان الأول بن أرطغول» من بلاد «تركستان» أو المُسماة حاليًا بإقليم «الأناضول» في تركيا الحديثة ،، ومن قبيلة «الغز»انطلقت الشرارة مُلتهمةً كل من يلقاها ،، وكان القضاءُ على دولة بني العبَّاس تحصيل حاصلٍ ،، فقد بدأ إنهيار العباسيين بولادة الدويلات المُستقلة عنهم ،، حتى وصلت الشرارةُ إلى مصر ،، فكان المماليكُ الذينَ كانوا حكامًا فعليين للبلاد بعد القضاء على «أسيادهم» الأيوبيين في إنتظارها ،، مُستعينين بالقليل من المصريين ،، فلم يكن للمصريين الحقُ الكاملُ في الدفاعِ عن أراضيهم لأنهم لم يكونوا أصحاب بلدٍ أسوياء !! أو هكذا أراد لهم المُحتل ،، ومُني المماليك بهزيمةٍ نكراء في صحراء العبَّاسية وتحديدًا في «الريدانية» وعلى إثرها اُعدِم السلطان المملوكي «طومان باي» وصارت مصر ولايةً عثمانية أو«عثمانلية» بلهجةِ المُحتل الجديد !! وكان لهذه الدولة بالغ الأثر في تشكيل الوجدان المصري ،، وأيضًا في تشكيل لهجتهِ العربية والتي طُعمت بالكثير من التركي !! والباحث في أصل اللهجة المصرية الحديثة والتي تختلفُ كثيرًا عن سائر لهجات البلاد العربية ،، يجد أنَّ اللغة التركية أو التركيبات التركية المُتوارثة تُشكلُ ما يزيدُ عن ثلاثين بالمائة من التركيبات المعمول بها في الكلمات ،، أيضًا العادات والتقاليد في اللباس وطريقة المعيشة ،،فقد كان لدولةِ العثمانيين السبقُ في نظامِ العمارة والهندسة في المنازل وبناء المساجد وتنظيم الشوارع وخلافهِ ،، أمَّا عن اللهجة فقد دخلت تركيةً جديدًا على اللغة العربية المصرية ،، صارت مع كل صاحب صنعة أو ربَ مهنة فأصبحت علمًا عليهِ وهي «جي» فوجدنا «البوسطجي» و«العربجي» و«القهوجي» وغيره الكثير ..
ونعودُ سريعًا إلى طريقة الحكم والتي لم تتغير كثيرًا عمّن سبق من الحكام ،، خاصةً في ما يُسمى بالعسس أو البصاصين ،، والطابور الخامس المتطوع من تلقاء نفسهِ بحثًا عن الكلأ ،، لكن كان للعثمانيين طريقة مُستحدثةً أخرى تُضاف للأنظمةَ القمعية البائدة ،، وهي مشايخ الحارات ،، حيث أنَّ القاهرة كانت تُقسّم إلى عدة أحياء والأحياء إلى حارات فكان لكل حي شيخٌ ولكل حارة شيخٌ يتبعُ شيخَ الحي ،، وفي النهاية يتبعون الوالي والَّذي كان يُعِينُ عليهم ما يُسمى "صلجق" والّذي في الغالب كان مملوكي حيثُ أنَّ العثمانيين قد استعانوا بالمماليك في إدارةِ البلاد ،، أمَّا شيخُ الحارةِ فكان يُختارُ من أهل البلاد أي مصري ،، وإن كانت أصولهُ مختلفةً بعضَ الشيء ،، وكان هو الآخر يستعين بفئةً تعينهُ على تحصيل الضرائب من العامة ،، والتي كان في غالبِ الأمر يزايدُ عليها ليخصَّ نفسه بنصيبٍ كبير ،، وكانت هذه الفئةَ تُسمى «فُتوّات» ومفردها «فُتوّة» وهي كلمةٌ عربيةُ الأصل وتعني القوة والشباب وإن كانت قد حُرّفت قليلًا ،، ولقد رأينا وقرأنا من قبل «حارة نجيب محفوظ» وشاهدناها على الشاشة كثيرًا ،، مثل فتوات الحسنية والدرب الأحمر ودرب الجماميز والباطلية ودرب سعادة والفحامين وبين السريات ... الخ
وكان لهذه الفئة من القوة والسطوة ما ليس للحكام المُحتلين أنفسهم ،، فكانوا يمتازون بصلابة الرأس وقوة الجسد وشدِّةِ البأس ما يجعلُ العامة يموتون رهبةً منهم ،، وكان سلاحهم هو «النَّبوت» وهي عصاة من الشوم ثقيلة لا رحمةَ فيها ،، وكان البعضُ منهم يتسلح بالسيف ،، والذي كان قد تحول أسمهُ بعدما تغير شكله إلى«بلطة» وهي سلاح أبيض قصير دونَ السيف المعروف وفوق السكين العادية ،، ولما كانت اللغة التركية قد استشرت على ألسنة العامة وتربعت كلمة «جي» والتي تعني صاحب الشيء ،، فأطلق العامة على هؤلاء الفتوات لقب «بلطة جي» أو«بلطة جية» وهي للجمع !!ومهما حاول أستاذنا نجيب محفوظ أن يثبت لنا أنَّ هؤلاء الفتوات كانت لهم دولة وانتهت إلا أنهُ لا يزال للفتوات دولةٌ وللبلطجيةَ دولة أكبرُ مساحةً وأقلُ عدلًا وأشدُّ بأسًا طالما أنَّ الحاكم ضعيف الشخصية ويختبئ خلف هذا الجيش في حالة تيقنهِ أنهُ على الباطل ،، فلو أنَّ الحاكم أدركَ أنهُ على الصواب لما استعان بأولئكَ المأجورين ،، ومن العثمانيين إلى المماليك مرةً أخرى إلى محمد علي وذريتهِ ،، مرورًا بالفرنسيين والّذين استعانوا هم أيضًا بالبلطجية في حكم البلاد ومقاومة المقاومة وإخماد نار الثورتين الأولى والثانية على «نابليون» وعلى مر العصور المُتعاقبةَ والبلطجية لهم حاكم يأتمرون بأمره ويطلبون وده ويخافون شره ،، إلى أن قامت ثورة يناير السلمية البيضاء ،، ولأول مرةً يجد هؤلاء أنفسهم بلا عمل ،، فالحاكم الظالم الّذي كان يستعين بهم دائمًا ويُنفقُ عليهم غالبًا اختفى في ظروفٍ غامضة ،، ثمَّ إنَّ الحاكم الجديد والّذي قد أقترب من دواوين الحكم ليس من المأمول أن يكون من الظالمين ،، إذن قد انتهى عصرُ البلطجة والبلطجيةَ إلى الأبد ،، ومن هُنا نفر الجيشُ العرمرم إلى الشارع مُعتمدًا لأول مرةً في التاريخ على نفسهِ ،، مُلهبًا ظهر البلاد والعباد بسياط ظلمهِ وقبضتهِ الحديدية ،، حتى لو لم يطُلهُ شيئًا من الخير ،، لكن لابد لهُ من أن يقول كلمته ،، حتى لو كانت لغته لا يفقهُهَا الكثيرون حيثُ إنها لغةٌ قديمةٌ وغيرُ معمولٍ بها في هذه الأيام ،، ولذلكَ أختلفُ مع من يقول بأنَّ الحوادث المُتعاقبة والتي نشزت هذه الأيام عن خطِ المألوف هي من تخطيط بعضُ فلول الحزب الوطني أو أركان النظام السابق !! لأنَّ المُتابع لتاريخ هؤلاء القوم سيعلم أنهم ليسوا على هذا القدر من الإخلاص لمن ترك الكرسي ،، وأنَّ ولائهم يكونُ دائمًا لمن يسوسهم فقط ،، ولا تنحني رؤوسهم إلى لمن بيده السوط ،، هكذا درجوا من القديم ،، أمَّا أن يُخلصوا لحاكم سكن خلف القضبان فهذه من علامات الساعة ،، ودربًا من دروبِ الخيال !! إنما خرج هؤلاء دفاعًا عن مُقدراتهم هم فقط !! وليس دفاعًا عن أي شيءٍ آخر.
والعلاج الشافي لمثل هذه الحالة المرضية الإجتماعية العسيرة لا تكونُ إلا بحلول العدل مكان الظلم ،، والنور مكان الظلام ،، والألفة بين الحاكم والمحكومين ،، لذلك سوف يندثر أولئك من تلقاء أنفسهم طالما لم يُفرخ الجنسُ.
«النهاية»
وفي نهاية الحديث الَّذي طال أكثر مما ينبغي أودُ أن أشير إلى أنَّ ما تقدم هي مُحاولة إجتهاديةٌ من عندنا ،، فإن أصبنا كان لنا أجران وإن أخفقنا كان لنا أجرٌ واحد ،، أجر المحاولة ،، وأتمنى أن تكون قراءتي للتاريخ كانت قراءةً صحيحةً فلستُ هُنا مُتخصصًا وليس هذا عملُ المُختص ،، لكنَّهُ كما أشرت إجتهاد ليس إلا ،، أشكر لكم حُسن المُتابعة .
__________________


  بقلم - مصطفى كامل زلوم

0 التعليقات:

إضغط هنا لإضافة تعليق

إرسال تعليق

Blogger Widgets

الجزيرة بث مباشر

Twitter Delicious Facebook Digg Stumbleupon Favorites More